شعار قسم مدونات

شيزوفرينيا الوطن

blogs - palestine boy

إنها قدرة الله عزو جل، نعم! إنه القدر الذي يلاحقنا، لم نكن مخيرين عندما وزّع الكريم العزيز الحيوات بين الناس، ولم نعترضُ على حكمه يومًا، قد يكونُ عدم التفكير في إجراء حوار مع الله حول ما يحلُ بنا من مصائب نحمده عليها ألف مرة؛ سببٌ لعدم معرفة حقيقة الواقع الذي نعيشه.
 

فالمؤمن هو من يُبتلى ويختبره الله العلي، ولهذا لم نسأل يومًا بين إذ ما كنا نريدُ أرضًا ذات مساحة واسعة وتضاريس فائقة الجمال، وبيئة عملية وعلمية على مستوى رفيع، صحية وتعليمية متقدمة، والأهم من ذلك أن تكون مواصفات هذه الأرض تنسب لبلد حرة تَخضِع ولا تُخضَع، اشتهينا يومًا أن نصدر أحكامًا وقوانين تنصت لها جميع الدول وتحسب لها ألف حساب، وأن سماع حروفها يهاب ولا يهيب، ولا يرى صوت رنين الشفقة على عيون سامعيها، حاملة معها كل الجبروت والقوة.
 

الآن عرفتُ كمية هذا التشتت الذي أصابني تجاه فلسطين، هم من رسموا هذه الصورة عنّا، هم حللوا، وفسروا، وحكموا، نحن تعساء، فقراء، بلا وطن، منقسمون، مشتتون، متغربون

نعم! لم نختر تلك الحياة المضنية العاتية الآخدة لكل شيء جميل، لم نرضَ يومًا أن نكون أطفالًا بعمر السادسة والتاسعة ولكن بعقول سياسيين محنكين، نتحدث في السياسة ونتابع أخبار تلفزيون الجزيرة ونردد ما يحلله جمال ريّان في جولة أخبار التاسعة مساءً.
 

كنا نتمنى دومًا أن نعيش روح الحياة الطفولية بجنونها ومرحها، بذكائها وغبائها، نريدُ أن نعيش حياة الاطمئنان دون التأهب لأي عملية اغتيال، اعتقال، استشهاد، إصابة، استهداف، قصف، تدمير، تشريد، والأخيرة هي الكلمة الأكبر التي أخدت نصيب الأسد وحيز التنفيذ بالمعنى الحقيقي للإنسان الفلسطيني.
 

هل عرفتم ما هي البقعة الجغرافية التي أتحدث عنها؟ نعم إنني أتحدث عن فلسطين، أي مكان ذلك الذي فقدت منه روح الحياة، أصبحنا لا نفرق بين اليوم وغد، أموات مع التنفيذ، أجساد بأرواح فارقت الحياة، ما هذه التشبيهات التي لا تروق لمعنى الإنسانية؟ إذًا لا تلمني عما سأقول بعد ذلك… لم أكن أتوقع أنه سوف يأتي يوم وأخجل من ذلك البلد العظيم، خائض المعارك حامية الوطيس، حامل شعار المقاومة والثورة الوطنية منذ الأزل، أفتخرُ كثيرًا بذلك البلد، أحبه كفرحة الأم التي حال بها الزمن دون جدوى من إنجاب طفلٍ لزوجها يحمل اسمه واسم عائلته، ولكنها في عمر الستين يُنزِل الله عز وجل بها معجزة لترزق بتوأمين، ما أجمل ذلك الشعور.. إنه إحساس الفرحة بلهفة وشوق كثير بل أكثر بل أكثر.
 

لقد خانني قلمي وأنا أكتب عن عشقي لهذا البلد، ولكنني تحدثت أنني خجلت منه، كيف يكون ذلك الإحساس عن شخص مستوي عقليًا، إنه التضارب الداخلي والتصارع النفسي في الأحاسيس تجاه الأشياء، الآن عرفتُ السبب! إنني مصابةٌ بالشيزوفرانيا، هل هو خطيرٌ بالدرجة التي لا أعرف، هل أحب بلدي أم لا؟ هل علاجه باهظ التكاليف وصعب النجاح؟ أعتقدُ أنه أصعب من أن أكون مصابة بمرض عضوي! لا أريد أن أذهب إلى طبيب نفسي، بالتأكيد سوف يجعلني أضحوكة بين ملفات مرضاه، أعلم أنَّ الطبيب لا يستهزئ بحالاته المرضية التي ترتاده يوميًا، ولا يفشي أسرارهم لأحد، لكن قد حالتي بسؤالي إياه عن معرفة الانقسام الشعوري بداخلي يجعله ينهمر ضحكًا بسببي، فالأفضل ألا أذهب.. الآن سأعالج نفسي بنفسي.
 

جلستُ مع نفسي وبدأت أقصُ عليها ما أشعر به حقًا، هل عليَّ أن أكون ذات حسٍ وطني زائد لسبب أنني فلسطينية الهوية والجنسية، فلسطينية العينين والوشم، فلسطينية الإثم، أعتقدُ أنني انفعلت كثيرًا ومؤشرُ الوطنية لديّ انتقل لأشعار محمود درويش، يا إلهي أشعر أنني أعشق ذلك الوطن، كعشق عنترة لعبلة، وقيس وليلى، فلم الخجل؟ جلستُ بالقرب من نافذة الشباك وبدأت أراجع شريط ذكرياتي المؤلمة، فقلتُ لنفسي أنا الآن في غربة، ولكن مفهوم الغربة الذي طالما سمعتُ عنه والآن أصبحتُ أدركه هو البعد عن الوطن والأهل والأحباب والأصدقاء، والذهاب إلى بلد أخرى بقصد العمل أو العلم أو أي شيء آخر، والشعور بالاشتياق للآخرين. ولكن أي غربة تلك التي أشعر بها في الغربة؟
 

يا إلهي بدأت أصدق أنني حقًا مصابة بمرض نفسي عضال، كيف أبحث عن روحي بين تلك العيون التي تنظر إليّ وكأنني جئتُ من بلد الواط واط، كيف يمكنني إقناعهم بأنني كائن بشري يتكلم ويشعر ويضحك ويتنفس ويستطيع أن يبدع أيضًا، كيف سأتفاوض معهم بأمور غير السياسية، لماذا كل البعد اللغوي والثقافي؟ أعتقدُ أنني بدأت أجعل الموضوع يأخذ أكبر من قيمته. أو أنَّ الغربة بدت لي وكأنها وحشٌ يرمي إليَّ بالأفكار السلبية دومًا، ولكن بالفعل حتى الآن لم أجد سببًا لذلك الشعور الذي يعتريني الخجل من الحب لـ، حروف الجر هذه ستجعلني على شفا حفرة من النار بسبب التفكير الزائد، الآن سوف أعصرُ تلك الجمجمة وأجد جوابًا مقنعًا، أفكر أكتب بعض الكلمات وأخربش على الأوراق، أمزقُ، أستمع إلى فيروز تشدو لزهرة المدائن، وقليًلا إلى نهاوند مرسيل خليفة، أحتسي فنجان قهوتي الذي تجتمع فيه مرارة الأيام التي رأيتها في وطني الحزين، الآن عرفتُ كمية هذا التشتت الذي أصابني تجاه فلسطين، هم من رسموا هذه الصورة عنّا، هم حللوا، وفسروا، وحكموا، نحن تعساء، فقراء، بلا وطن، منقسمون، مشتتون، متغربون، ولكن لا ترسموا صورة عن فكرنا وثقافتنا، عن أحلامنا وطموحاتنا.
 

الدول الشقيقة بالاسم، منافقة بالمعنى تكالبت علينا، ولكن لم تقوَ على إخماد ثورتنا يومًا. هل هذا يكفي لتعترفوا برقيِّنا؟ أرجوكم امسحوا تلك الصورة السلبية عن رجعيتنا وتخلفنا، نحن أصحاب الخيام

أرجوكم أبعدوا نظراتكم التي تملؤها الشفقة عنا، نحن بخير، حقًا نحن بخير، أريد أن أقول لكم بأننا لم نترك أوطاننا، بغية التنزه والاستمتاع، نحن لم نغادرها كي نجمع أموالًا لنبنيَ بها مستقبلنا، يوجد لدينا جامعات ومدارس، هواء مدينتي نظيف، وقلوبنا صافية، ونحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلا، ومقاومتنا صنعت لنا أنفاقًا، أحضرت لنا منها ثيابًا ملأت محالنا، وموادًا غذائية تكفينا، الحدود والمعابر أنهكت أجسادنا، ولكن لم تنهك أرواحنا، لا زلنا نقاتل.
 

الدول الشقيقة بالاسم، منافقة بالمعنى تكالبت علينا، ولكن لم تقوَ على إخماد ثورتنا يومًا. هل هذا يكفي لتعترفوا برقيِّنا؟ أرجوكم امسحوا تلك الصورة السلبية عن رجعيتنا وتخلفنا، نحن أصحاب الخيام، ونحن أصحاب اللا بيوت، نحن أصحاب اللاشيء.. ولكن أصحاب كرامة وعزة ونفس أبية.
 

هل هذا يكفي لتأخذوا أفكاركم عنّا؟ قال أدونيس: "الفكرة التي كونتها عني هذه ليست أنا، إنها أنت". فإذا كنت قد رأيتني بدون عقل وبدون وعي، وحسي ثقافي، وأنا غير ذلك تمامًا، ولكنك نظرت إلي بمنظور جغرافي، اعذرني فهذا هو أنت.. لمن يقرأ هذه الكلمات التي كَسَرتُ فيها حاجز الخجل بيني وبين قلمي، اعذروني فمعاملة التهميش والعنصرية لا تليق بالفلسطينيين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.