شعار قسم مدونات

مواطنون بلا وطن!

blogs - Yemeni flag
بعد مئات السنين عرفنا أن الوطن الذي يتحدث عنه حكّامنا، الذين تعاقبوا على حكمنا قسرًا، ليس هو الذي نعرفه، وليس هو ذلك الذي في أرواحنا ودمائنا، وفي غفلة من الزمن استطاع هؤلاء المتسلطون أن يقنعونا بأن الوطن هو ذلك المحكوم ببقائهم في كراسيهم العرجاء، وتنتهي حينما يسقط ذلك الكرسي أو يسوء حاله، كيف خدعونا بأوطانٍ ليست نحن؟! وكيف مرّروا هذه الخديعة الكُبرى علينا؟! يتحدث المستبد ساعات وأيام عن الوطنية والوطن ولا يصدقه أحد، حتى العصافير، يقولون كلامًا كثيرًا لا أساس له ولا محل له من الإعراب، ما يتحدثون عنه ليس هو الناس، وليس هو التراب أيضًا، هم يعيشون خيالا من نوع آخر، ولكن، كيف ينتخب الناس المتسلّط ليقود لهم الوطن الذي لا علاقة له بهم على الإطلاق؟! وعلى النقيض تمامًا مما في دواخلهم!

منذ عقودٍ طويلة مضت، ولا زالت، ولم نعرف من الوطن إلّا اسمه، ولم نشعر به ولم ننعم به كغيرنا من أبناء الأرض، سمعنا به، فقط، في شاشات التلفزة، وهي تحصي القتلى والجرحى والغارقين في منافي الموت، عرفنا الوطن على صفحات الجوازات التي نحملها ولا تحملنا، ولد أجدادانا وآبائنا، وولدنا نحن، ولا يزال المتعاقبون على حكمنا يوعظوننا عن أوطان لا نعرفها، وطالبوا منا أن نحرس بلدانًا حدودها من كل الاتجاهات ذواتهم، حاولوا، وما زالوا، يقنعوننا بأن الأوطان جزء لا تتجزأ من الإيمان، لكننا حينما طالبنا أن نعمّق علاقتا بهذا الإيمان، أصبحت تلك الأوطان ردّة وكفرًا، كنا مخطئين حينما صدقنا أن التراب الذي ترعرعنا فيه هو نفس التراب الذي عرفنا حكامنا من خلاله، ذلك أنه من العار أن نصدق، مثلًا، أن الوطن الذي عرفته أنا، هو نفس الوطن الذي عاش فيه وعرفه الكائن الوحشي (علي عبد الله صالح)، وليس هو اليمن الذي قتل عبد الملك الحوثي آلاف البشر، بخبراء إيرانيين، من أجل الدفاع عن شعبه، إن الوطن ليس هؤلاء، وليست نحن، إنها تلك البقعة الخضراء التي تبكي بدواخلنا حينما ترفرف الراية في العلالي ولا تسقط!

كنا مجرد أدوات لوطن عاش فيه الهوامير وأصحاب النفوذ، لم نعرف الوطن الذي حدثونا عنه.

نحن المواطنون الذين لا وطن لهم، يعرفنا ولا نعرفه، ضللنا الطريق للوصول إليه، سلّمنا ترابه لمن لا يخافه ولا يرحمنا، كان أخوف ما أخاف عليه أن يأتي الزمن الذي أتمنى فيه العودة إلى وطني ولا أستطيع، وجاء الوقت الذي أشتاق للتدثّر بالتراب اليمني وليس بمقدوري أن أصل إليه لأشمّه، فماذا لو اشتاق أحدنا إلى أمه التي حرمنا من بعضنا من ينشد الوطنية فينا من قرنٍ من الزمن؟! رفع "علي صالح" القرآن الكريم، وبعدها هدّد بدماء ستسيل للرّكب، وفعل ذلك ونفّذ، وخطب "عبد الملك الحوثي" مستفتحًا خطبته بكلام الله، وخرج يهدد (ما نبالي ما نبالي)، ونشر الخراب والدمار في كل شبرٍ في البلاد، من أجل الوطن، الذي فعل كل أفاعيله دفاعًا عنه، ويناشد "شعبه العظيم" للالتحاق به!

لا أسوأ من صراع الهويات، وضياع الانتماءات، وليس هناك ما هو أشد من الألم إلّا إحساسك بأن أثمن ما تملكه يضيع أمام عينيك وليس بمقدورك أن تردع من يعبث به، ولم يكتف حكّامنا أن سلبوا منا أوطاننا، وأصبحنا معلّقين بين الانتماء له، واللا انتماء، لم يكتفوا بذلك، بل زادوا أن عاقبونا على الشيء الثمين الذي بدواخل كل فردٍ منا، نحن لا نملك شيئا سوى ما تبقى من صدق شعور تجاه وطن لا نعرفه ولا يعرفنا، أعترف أنكم سلبتمونا المعرفة، وأدخلتمونا متاهات نحن في غنى عنها، وما بعد العالم الثالث أصبحنا في ذيل الأمة، التي نتفاخر بالانتماء لها، ومن المعيب والعار في آن، أن نكون الشيء الذي لا يوجد فينا، نحن، وإن كان التاريخ قد منحنا العظمة والزهو، لكن لا أظنه سيفخر بنا الآن، وأقل ما سيفعله هو أن يربط الأمل معقودا فينا بالعودة، ولربما هذه فرصة ثمينة لن تُمنح لنا مرة أخرى!

نفخر أننا البدايات الأولى للبشرية، في أحشائنا وشرايينا نفخ الملائكة اليمن، أصل المهد وعماد الأرض، مخلوقة فينا.

سيقول البعض، أنني أجلد الذّات، وأزوّر التاريخ، وحقًا أنا كذلك، حيث إنه ليس هناك ما يستحق أن نفخر به، قرون عدّة ونحن طبول يقرع عليها الحكام ورجال المخابرات، كنا مجرد أدوات لوطن عاش فيه الهوامير وأصحاب النفوذ، لم نعرف الوطن الذي حدثونا عنه، غرسوا فينا مفاهيم وثقافة منحرفة عن الهوية الوطنية، التي تميّز جماعة دون أخرى، وشيخا دون آخر، مزقوا فينا الهوية الجامعة واستبدلوها بالهويات الصغيرة التي تمنحهم الصلاحيات والمميّزات، وتضمن لهم البقاء حراسًا لأوطانهم التي نحن فيها مجرّد رعايا وأرقامًا على الهامش، أنا لا أندب الحظ، أنا هنا أبكي وأتكلم عن الوطن الذي بداخلك يا صديقي، عن التراب الذي عشقته وتذوقته دون الحاجة لسدنته، عن البقعة الجغرافية الحصينة التي تعتقد أنها هي الملاذ الأخير لك، وهي حضنك الدافئ الذي لا غنى لك عنها، هل تعرف الوطن الذي في شرايينا ودمائنا؟! هو ذلك الوطن الذي لا صلة لحكامنا ومؤرخينا وإعلاميينا به، هو في عين أمك وقلب أبيك!

نفخر أننا البدايات الأولى للبشرية، في أحشائنا وشرايينا نفخ الملائكة اليمن، أصل المهد وعماد الأرض، مخلوقة فينا، ليست تلك التي في أعين تجار الحروب والكراسي، ولا نعرفها البتّة، اليمن هي تلك التي سطرها الله:

بلدة طيبة ورب غفور، وجدت ووجدنا في أعماقها، صحيح نحن تائهون، لكن المصائب ستدلّنا عليها، نعشق تلك البلاد التي لا استراحت ولا استرحنا، وما هو أكيد أن اليمن ليست التي يتحدث عنها الساسة وسيرك طويل من الإعلاميين، نعرف بلادنا جيدًا، هي تلك التي يقاتل من أجلها الحفاة العراة، هي تلك التي على وجوه المتعبين والمقهورين والفقراء والمساكين، هي تلك التي يقودها، كما يقول د. مروان الغفوري، "المعذبين في الأرض"، هي المرأة، هي بلقيس منذ النشأة، ومشقرها الندي هي أرضنا، وقبلتنا الأزلية حتى النهاية، آمنا بها ولا شريك لها قط، أما الطارئون القتلة فهم إلى زوال، ولن يبقى على أرضها سوى نحن، ورددي أيتها الدنيا نشيدي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.