شعار قسم مدونات

سنوات في سجن سيجارة!

A tourist smokes a cigarette in Valletta, Malta, November 13, 2016. REUTERS/Darrin Zammit Lupi MALTA OUT. NO COMMERCIAL OR EDITORIAL SALES IN MALTA
وأنا أتأمل وجوه المارين ذات صباح، لفت نظري شيخ طاعن في السن بدأت تخونه قواه، فما عاد يستطيع المشي بخطى ثابتة وإنما أصبح يترنح كالسكران يمنة ويسرة! وليس هذا هو الغريب في حاله؛ فتلك سنة الحياة، ومن تقدم به العمر حتما ستخونه قواه الجسدية والعقلية إلا من رحم الله، لكن الذي لفت نظري وحز في نفسي هو تلك السيجارة التي يشدها بين أنامله المرتعدة! رأيتها ودققت النظر فيها، فأثارت في نفسي ما أثارت، رأيتها ودققت النظر جيدا، لم يبقى منها إلا ذيلها ونارها الملتهبة بدأت تحرق أصابع الرجل لكنه غير مبال!

 

كنت أرى العالم في سن المراهقة رؤية الفاهم المتمرس، فخدعت بالإيحاء، وكنت ضحية الاستلاب، فسقطت في مستنقع التجربة الفاشلة، فكان ثمن الخطيئة الأولى سنوات عجاف!

لوهلة طرأ على ذهني تشبيه وجيه؛ فلو أن السيجارة تمثل عمر الرجل وذيل السيجارة يمثل ناقوس الخطر، والجزء المحترق يمثل الماضي، والجزء المتبقي يمثل المستقبل، والجزء المشتعل يمثل الحاضر، فالرجل وصل احتراق سيجارته إلى موقع ناقوس الخطر وهو كذلك! فالرجل في سنواته الأخيرة من العمر.

فتساءلت: أما كان لتلك الجمرة التي بدأت تحرق أصابعه أن تذكره بقرب موعد الرحيل؟ ثم تذكرت نفسي، تذكرت تلك السنوات التي قضيتها في سجن اللعينة! ويا خيبتي عندما أتأمل العمر وأرى سنوات فقدتها ولم أنجز فيها شيئا. وإنما على العكس من ذلك؛ "خربت" فيها العقل والجسد والجيب! فيا أحباب الله من كان منكم غير مبتلى فليبتعد مسافة ألف ميل عساه يظفر بالنجاة، فلعنة الإدمان أخطر مما يتصور المرء. وإذا كانت رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، فإن الإدمان أيضا يبدأ برشفة واحدة.

في البداية كنت أتصور المسألة مجرد تجربة بسيطة قد يسلم المرء منها بالقوة والإرادة والعزيمة، وكنت أنصح المدمنين بالتوقف عن التدخين، وكنت أستقذر الفعل، لكن شيئا فشيئا.. وبتأثير العديد من المؤثرات كالإعلام مثلا؛ خصوصا الأفلام التي تصور البطل دائما ممسكا بسيجارته وأيضا إحساسي بالنقص، فمركب النقص الخفي لدي ربما هو من دفعني إلى مستنقع الإدمان، ظنا مني أني سأتقوى وستصبح شخصيتي شخصية بطل متمرد على المجتمع وعلى قوانين البيت ونصائح الوالدين. فكنت أرى العالم في سن المراهقة رؤية الفاهم المتمرس، فخدعت بالإيحاء، وكنت ضحية الاستلاب، فسقطت في مستنقع التجربة الفاشلة، فكان ثمن الخطيئة الأولى سنوات عجاف!

يصبح المدمن عبد إدمانه، ولمن لم يستوعب العبارة أغيرها فأقول: يصبح "حمار طاحونة!" حيث يربط الحمار في عمود ويدور حول الطاحونة من غير حول ولا قوة على اتخاد قرار بالتوقف. وحتى إن حاول فإن وراءه عصا الجلاد ومنخسه، ذلك هو الإدمان بحقيقته.

فمنذ الصباح، وربما قبل تناول وجبة الفطور في بعض الأحيان، أول ما كنت أفكر فيه هو جرعات الدخان! ولكم أن تتصوروا إنسانا يبدأ يومه بجرعات دخان، كيف سيكون أداؤه طيلة اليوم؟ لن أجيب فالكل يعرف الإجابة، ليس هذا فقط وإنما قد يتطلب الأمر أحيانا فعل المستحيل من أجل الحصول على سيجارة أو مجرد رشفة! فالعفاريت التي بداخلي وبداخل أمثالي كانت تدمرني" تقتل فيَّ الإنسان شيئا فشيئا! نعم، هو كذلك فما الذي يجعل من الإنسان إنسانا إن لم تكن الحرية والكرامة، وأخطر ما في الأمر أن يمتهن الإنسان كرامته بنفسه، ويسمح لشيء تافه أن يسجنه في سجن الوهم، وما كنت أشعر بحقيقة المأساة التي كنت أعيشها فالتطبيع مع الخطيئة سلاح فتاك.
 

لم أكن بطلا ولم أكن كامل الشخصية، وإنما كنت مجرد ساذج مغفل تغلبت عليه مركبات النقص، فحاول ملأ نقصه بشيء يدمر الإنسان كليا عوض أن يكمله.

وأنا أدون هذه الكلمات على جهاز حاسوبي؛ استوقفتني الذاكرة فعادت بي إلى تلك الساعات الطوال التي قضيتها مع جرعات الكيف، والحشيش، كنت أقضي ساعات جالسا أرتب أحلامي وما سأفعله وما أريد أن أكون، لا أخفيكم أن أحلامي كانت لا حدود لها بفعل المخدر، فإن له قدرة خارقة على صنع الأحلام وتزينها. فكنت أمضي الساعات الطوال من الليل حالما بواقع أفضل وذاك شيء جميل، لكن الخيبة تبدأ في الصباح؛ عندما أصبح غارقا في سباتي ونومي العميق، عندها تتحطم كل الأحلام التي بنيتها ليلا فيبدأ الشعور بالعجز يتضخم، وأبدأ بلعن الواقع والعالم، والتجئ إلى ملاذي مجددا فآخذ جرعات، وهكذا تبدأ الحكاية مرة أخرى وهو ما عبرت عنه بـ "حمار طاحونة"، طاحونة الوقت والمال والصحة.

ومرت السنوات مر السحاب، فبدأت أستعيد وعيي شيئا فشيئا، فرأيت حجم ما أنا فيه بعين من عاش التجربة بنفسه، ومن ذاق مرارة الفشل مرات بسبب إدمانه! حتى أيقنت أني لا محالة هالك! إن سلَّمت فيما بقي من سنوات العمر لقاتل أمسكه بين يدي ليقتلني في رعيان شبابي، وعندها بدأت معركة أخرى؛ معركة من أجل استعادة إنساني التي دمرتها بيدي، فكانت الليالي الطوال التي عشتها في جلد الذات، والبحث عن الخلاص، وقبل ذلك البحث عن الذات وعن سر الوجود وغايته وتلك حكاية أخرى يضيق المجال عن ذكرها الآن.

فكان أن من الله علي بنعمة تركه بل وحتى مقته، فكانت البداية التي حتما ستكون لكل من ألح الطلب على الله أولا، ثم بحث عن ذاته وقرر أن يخوض غمار التجربة من جديد؛ تجربة السعي نحو الكمال والجمال ففي الحياة ما يستحق أن يعاش أفضل بكثير من روائح الدخان الكريهة! فالجمال بداخل كل منا وحوله فقط ينبغي البحث عليه .

والآن تبدلت رؤيتي رأسا للموضوع فأقول بصراحة أني لم أكن بطلا ولم أكن كامل الشخصية، وإنما كنت مجرد ساذج مغفل تغلبت عليه مركبات النقص، فحاول ملأ نقصه بشيء يدمر الإنسان كليا عوض أن يكمله، وإذ أكتب هذه الكلمات إنما هدفي ومبتغاي أن أنقل تجربة فاشلة، ناتجة عن عدم تقدير حقائق الأمور لغيري، ممن يمكن أن يغتر بزخارف الوهم. وأن أقول بيقين المجرب أنه لا مستحيل في الحياة إلا في عقول الضعفاء.
 

فمن كان منكم يا سادتي ساقط في فخ الوهم، فعليه أن يضع أول خطوة على أرض الحقيقة الصلبة وأن يستعين بالله ويمضي في طريقه غير مبال بلسعات البعوض، وأن يدرك أنه ذلك الإنسان المكرم ومن حقه أيضا أن يتنفس الهواء النقي كباقي بني جنسه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.