شعار قسم مدونات

فرقة العقارب.. أو إرهاب العيون الزرق

Blogs - Bosna Reporer

– أتحداك في أن تقدم لي نموذجا واحدا يعادل أو يفوق إرهاب داعش، أقنعني بأن التوحش والدموية والبربرية ليست صناعة إسلامية خالصة لا ينافسها عليها أحد!

قالها وهو ينفث دخان سيجارته باستمتاع، فأجبته بهدوء:

– هذا لأنك لم تلق نظرة متمعنة على التاريخ، لتفهم أن مشكلة التوحش مرتبطة بسلوك الإنسان، لا بدينه، الدين مجرد ذريعة لارتكاب الجريمة وليس سببا لها، وما دمنا غير قادرين على التفريق بين الدين بمفهومه الإلهي والتدين ببعده البشري فإن المشكلة ستبقى هكذا بلا حل.

– أريد أمثلة واضحة!

 

– طيب، هل سمعت عن الفظاعات التي ارتكبها المسيحيون في الحروب الصليبية؟ وتفاخر نيرون الروماني بقتله لمئات الآلاف ممن اعتبرهم خصومه؟ ماذا عن الإسبان في محاكم التفتيش بالأندلس؟ ومجازر الجيش الياباني بحق الصينيين في مذبحة نانكينغ؟ واقتتال شعوب أوروبا في القرون الوسطى بين الكاثوليك والبروتيستانت، و…

 

– لا تحدثني عن تاريخ الزمن الأغبر فأنا لا أصدقه، أنت تعلم كما أعلم أن التلاعب به سهل للغاية، ما الذي يضمن لي أنه كتب على هوى المؤرخين وخضوعهم لحسابات معينة؟ كما أننا نعيش في زمن الحضارة والرقي الذي تجاوز فيه البشر كل مظاهر التوحش، أنا لا أصدق سوى ما تراه عيني، الصوت والصورة، فقط لا غير!

 

– أنت تناقض نفسك يا عزيزي، وتتناسى أن التلاعب بالمعلومة في زمننا هذا أسهل وأيسر بكثير، لكن لا بأس، سأنفذ طلبك وأسوق لك نموذجا حديثا للغاية، بالصوت والصورة، ما دامت ذاكرتك قصيرة وترفض النبش في تاريخ الزمن الأغبر كما تسميه، لتفهم أن الوحشية هي نفسها، قبل الميلاد وفي القرون الوسطى وبعد القرن العشرين، لأن منفذها إنسان يرفض التعلم من أخطائه والاستفادة من تجارب من سبقوه، في تطبيق حرفي لتخوف الملائكة عندما خاطبت الله تعالى : (قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) سورة البقرة – الآية 30.

 

سأحدثك عن نموذج لا يتجاوز عمره عقدين من الزمن، وأين؟ في قلب أوروبا المتحضرة…

سأحدثك عن فرقة العقارب..

 

كانوا يصرون في كل مرة يرتكبون فيها مجزرة من هذا النوع على شق صدور القتلى بالسكاكين عموديا وأفقيا لرسم علامة الصليب، وقطع أصبعين من كل يد وترك ثلاثة

عندما اشتعلت الأوضاع في البلقان قبل أزيد من ربع قرن، حاول الصرب مستعينين بما تبقى من جيش يوغوسلافيا السابق السيطرة على البوسنة، بعد فشل محاولاتهم في كرواتيا التي دمروا مدينتها فوكوفار عن بكرة أبيها، فاستعانوا طبعا بصرب البوسنة، الذين شكلوا جماعات ووحدات شبه عسكرية كانت مهمتها تنفيذ جرائم التطهير العرقي والقتل الممنهج بحق المسلمين والكروات، وهي الوحدات التي أطلقت على نفسها أسماء رمزية مثل ذئاب فوتشيك، النسور البيضاء، الدبابير الصفراء، متطوعي الحرس الصربي، لكن جرائمها مجتمعة لم تكن لتعادل عشر فظائع فرقة العقارب أو škorpion…

 

– ذئاب، نسور، دبابير، عقارب، ما هذه الأسماء؟

– منذ فجر التاريخ والإنسان يتشبه ببعض الحيوانات محاولا استلهام قوتها، وتحدث الكثير من المؤرخين عن جماعات تسمت بأسماء الأسود والفهود والنسور والثعالب والذئاب والعقارب، رغم أن هذا الإنسان ينسى أو ربما يتناسى أن وحشية الحيوان مهما طغت لن تساوي ربع وحشيته هو!

 

– طيب، أكمل…

– شكل فرقة العقارب مجموعة من المتعصبين الصرب، بقيادة سلوبودان ميديتش، هم الذين اعتبروا أن البوسنة جزء لا يتجزأ من صربيا الكبرى التي لا مكان فيها للمسلمين بقايا الإمبراطورية العثمانية حسب تصورهم، والكروات الكاثوليك لأنهم أكبر مناوئين للأرثوذكس في فهم الدين المسيحي، وتلقوا دعما مباشرا من الكنيسة الأرثوذكسية في بلغراد، فزاروها أفواجا وتمتعوا بمباركة راعي الكنيسة الأب جافريلو ماريتش شخصيا، لتبدأ سلسلة من الجرائم المروعة التي لا تختلف كثيرا عما ترتكبه داعش اليوم وتعتبره أنت وحشية يقف وراءها الإسلام كدين.

 

تخصص إرهابيو فرقة العقارب في مهاجمة القرى الآمنة، وحرقها، بعد قتل رجالها، واغتصاب نسائها بطريقة وحشية، دون تفرقة بين طفلات وعجائز، عبر الإصرار على اقتراف هذا الفعل المشين أمام أعين الأبناء، إمعانا في الإذلال والقهر، فقد صورت لهم عقولهم المريضة أن هذه الاغتصابات وسيلة لإنتاج أجيال صربية "نقية"، فكان من الطبيعي بالنسبة لهم بقر بطون الحوامل وقتل الأجنة، ودفن الأسرى والجرحى أحياء، كل هذا مع ترك توقيع ممهور بالدم وفريد من نوعه على جثث قتلاهم.

 

– أي توقيع؟

– كانوا يصرون في كل مرة يرتكبون فيها مجزرة من هذا النوع على شق صدور القتلى بالسكاكين عموديا وأفقيا لرسم علامة الصليب، وقطع أصبعين من كل يد وترك ثلاثة للدلالة على إشارة التثليث في العقيدة المسيحية.

– يا للهول!

قالها برعب حقيقي، ثم أضاف:

– وماذا حصل بعد ذلك؟

أجبته ببساطة:

– لا شيء! وضعت الحرب أوزارها، واختفى هؤلاء عن الأنظار، ربما تم إلقاء القبض على بعض قادتهم وحوكموا محاكمات مسرحية، لكن عذاب الضمير وحده من كان لهؤلاء بالمرصاد، منهم من أصيب بالجنون، أو انتحر، أو اعترف بما اقترفته يداه، أو طاردته كوابيس من قتلهم فاتصل بالسلطات المعنية ليرشدهم إلى مواقع المقابر الجماعية، راتكو ميلاديتش قائد جيش صربيا البوسني نفسه، انتحرت ابنته بمجرد قراءتها لقصاصات صحيفة وصفت بالتدقيق كل الجرائم التي اقترفها هو، هي التي عاشت واعتقدت أن والدها بطل شريف يحارب الأشرار والأعداء!

 

التقطت نفسا عميقا، ثم أكملت:

– طيب، راجع معي، وضع اقتصادي متدهور بين انهيار يوغوسلافيا وتضاعف العجز التجاري وتصاعد التضخم في صربيا، بطالة مستشرية وانعدام أمن ونسبة جرائم قتل وسرقة مرتفعة، ثم تظهر فجأة كتب وأفلام وبرامج تسترجع الماضي من منظور معين وتعتبر أن الآخرين هم السبب في كل هذه المشاكل، ثم تتبعها مباشرة مباركة غامضة من رجال دين غامضي النوايا، يدفعون أشخاصا لارتكاب جرائم باسم الدين مع التبشير بالمباركة الأبدية، فتقع فظائع يشيب لها الولدان،  ويتبارى القتلة في إظهار وحشية يعتقد أصحابها أنهم يتقربون بها من الرب،  وحاشا لله أن يأمرنا بذلك، ألا يذكرك كل هذا بشيء ما؟

 

أجابني بعد تفكير عميق:

– أعتقد بأنني فهمت قصدك…

ابتسمت في ثقة، ثم أجبته:

– أنت فهمت، لكن هل سيفهم الآخرون؟ أتمنى ذلك!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.