شعار قسم مدونات

الخطر الداهم العام

U.S. President-elect Donald Trump gives a thumbs up to the media as he arrives at a costume party at the home of hedge fund billionaire and campaign donor Robert Mercer in Head of the Harbor, New York, U.S., December 3, 2016. REUTERS/Mark Kauzlarich/File Photo
ترامب يواصل جهوده لاختيار شخصيات لشغل المناصب وإكمال فريقه الحكومي (رويترز)
للوهلة الأولى تبدو وعود ترمب الانتخابية شعثاء خالية من المنطق، إلا أن عدداً من المخططين الإستراتيجيين في مؤسسات البحث السياسي التابعة لليمين الأمريكي، جهدوا ليضعوا تلك الوعود الانتخابية في إطار سياسة خارجية أمريكية متماسكة، ويبدو، من متابعة ما يصدر عن مراكز الأبحاث الأمريكية اليمينية من مقالات ودراسات، أن الخطة هي ما يلي:
 

أولاً: في العالم: مهادنة روسيا لمواجهة الصين:

إن سياسة ترمب الحمائية التي وعد بها الطبقة الوسطى الدنيا من الأمريكيين البيض، تقتضي بأن يفرض الرسوم الجمركية على البضائع الأجنبية المستوردة إلى الولايات المتحدة، وعلى البضائع الأمريكية التي تصنع خارج الولايات المتحدة، وهذه السياسة ستضر بالصين أكثر من غيرها.

والصين أكبر دائني الولايات المتحدة، ويمكنها الرد على هذه الإجراءات بسحب أموالها من المصارف الأمريكية، أو بأن تقلل من تعاملها التجاري الدولي بالدولار الأمريكي، وكلا الإجراءين كفيل بأن يرمي الاقتصاد الأمريكي في هوة كساد آخر شبيه بكساد عام ٢٠٠٨، كما يمكن أن تقوم الصين بإجراءات توسعية بطول سواحل المحيط الهادي، وقد بدأت بالسيطرة على أرخبيل غير مسكون من الجزر الصغيرة التي كانت تابعة للفلبين في بحر الصين الجنوبي.

وعليه فإن الولايات المتحدة تريد أن يكون لها من أوراق الضغط، ما يسمح لها أن تتبنى سياسة حمائية دون أن تتعرض لهذا العقاب من الصين. أوراق الضغط هذه عديدة، أولها أن يكون للولايات المتحدة وجود بحري عسكري قوي قبالة الشواطئ الصينية على المحيط الهادي، وثانيها السماح لكل من كوريا الجنوبية واليابان بالتسلح، سواء بتطوير سلاحي طيران وبحرية قويين لكل منهما أو بالسماح لهما بامتلاك أسلحة غير تقليدية بما في ذلك الأسلحة النووية.
 

ترمب يركز في خطابه السياسي على مقاتلة الإسلاميين جميعاً، لأن كراهيتهم تجني له شعبية بين قاعدته الانتخابية من الأمريكيين البيض منخفضي الدخل والتعليم.

وكلا الإجراءين كفيل بأن يجر الصين إلى سباق تسلح مع الولايات المتحدة، شبيه بسباق التسلح الذي جرّ إليه الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغن الاتحاد السوفييتي في الثمانينيات وأدى إلى انهياره. وقد كان ترمب وعد مراراً أثناء حملته الانتخابية بإعادة بناء البحرية الأمريكية وتسليح اليابان وكوريا الجنوبية. كما أنه أول رئيس أمريكي يتصل مباشرة برئيس تايوان، التي تعتبرها الصين جزءاً منها متمرداً عليها، منذ عام ١٩٧٩.
 

ويرى المخططون الأمريكيون اليمينيون أن الولايات المتحدة ستكون في وضع أفضل إذا لم تواجه الصين وروسيا معاً، وإن وفرت مواردها العسكرية والاقتصادية المهدرة الآن على الدفاع عن شرق أوروبا ضد التوسع الروسي لتوجهها ضد توسع الصين المحتمل في شرق آسيا.

فروسيا الآن أضعف من أن تشكل للولايات المتحدة التهديد الذي كان يشكله الاتحاد السوفييتي، ولذلك لا معنى لأن تشغل الولايات المتحدة مواردها بتسليح شرق أوروبا وإبقاء دولها في حلف شمال الأطلسي للضغط على موسكو. بل إن المصلحة الأمريكية هناك تقتصر على منع روسيا من أن تكون ظهيرا لبكين ضد واشنطن، وهذا ممكن إذا تنازلت الولايات المتحدة لروسيا عن شرق أوروبا، أو عن ذلك الجزء من شرق أوروبا الذي توسع إليه حلف الناتو بعد انتهاء الحرب الباردة، بالإضافة إلى السماح لروسيا ببعض التوسع في الشرق الأوسط.

بناء على هذه الخطة، تسمح الولايات المتحدة الأمريكية بانقلابات أو تغيرات سياسية مواتية لروسيا في دول البلطيق الثلاث، لاتفيا وإستونيا وليتوانيا، وتخفف من دعمها للحكومة الأوكرانية، بحيث يكون السلام بينها وبين موسكو في مصلحة هذه الأخيرة، وتكرر السلوك ذاته في جورجيا والقوقاز.
 

وهنا لا بد أن نذكر تذمر ترمب من حلف الناتو، ومن تأخر دول كإستونيا ولاتفيا وليثوانيا في دفع نصيبها من تكاليف الدفاع عنها. هو يرى أن الحلف لم يعد له داع، لأنه موجه أساساً ضد روسيا لا الصين.

وعليه فيمكن أن نلخص سياسة ترمب الشمالية بأنه سيعطي روسيا حرية التصرف في شرق أوروبا، مقابل أن تترك روسيا له حرية التصرف في شرق آسيا.
 

ثانياً: في بلادنا: تسليم سوريا لموسكو مقابل القضاء على الإسلاميين، سنة وشيعة على حد سواء.

أما بشأن بلادنا، فإن الأمر، كالعادة، أكثر تعقيداً. واختصاره، الذي سنفصله بعد قليل، هو أن ترمب ينوي إعطاء سوريا للروس، على أن يقضي له الروس على التنظيمات الإسلامية المتشددة، وأن يتركوا له، أو لإسرائيل، التعامل مع إيران والمقاومة اللبنانية دون تدخل.

فترمب سيترك لروسيا نفوذها في الشام مقابل أن يكون الروس الضامنين ألّا يخرج من سوريا أي تهديد لإسرائيل أو للولايات المتحدة، وأن لا يعارضوه إذا قام هو أو قامت إسرائيل بأي عمل عسكري ضد إيران أو المقاومة اللبنانية، فلا تتدخل موسكو، ولا تسمح لدمشق أن تتدخل، إذا سمحت أمريكا لإسرائيل بقصف المنشآت النووية في إيران أو غزو لبنان مثلاُ.
 

لقد قال ترمب إنه يريد أن يكف عن سياسة بناء الدول، أو بناء الأمم كما يسميها، أي أنه لا يريد أن يحتل بلاد العرب احتلالاً مباشراً، ثم يعيد بناء جيوشها وبيروقراطياتها بإشراف أمريكي كما فعل جورج بوش الابن في العراق.
 

ذلك لأن العرب، خاصة في الشام والعراق، كلهم مسلحون، وتدخله سيغرقه في حرب عصابات تكلفه مالاً كثيراً، وهو يحتاج هذا المال للمواجهة الاقتصادية مع الصين أو لبناء بحرية أمريكية قوية ينشرها في المحيط الهادي كما أسلفنا.

ومصلحتا أمريكا في بلادنا هما النفط وإسرائيل، فإن أمَّنَهُما فإن ترمب لا يبالي ما يكون في هذه البلاد. وهو يرى أن الدول العربية التي أنشأها الاستعمار البريطاني والفرنسي كفيلة بالحفاظ على هاتين المصلحتين، إسرائيل والنفط، وأن أي تعديل على هذه الترتيبات الاستعمارية القديمة، على طريقة جورج بوش الابن، سيكون مكلفاً وخطيراً. ترمب يريد أن يستعمر المنطقة استعماراً غير مباشر لأنه أرخص من الاستعمار المباشر. هو يريد أن يحمي سايكس بيكو ووعد بلفور، أي بقاء إسرائيل والديكتاتوريات العربية، مرة أخرى لأنه يريد أن يتفرغ للصين وألّا يدخل في مستنقعات حروب عصابات هو غير مؤهل لكسبها.
 

وسايكس بيكو مهددة، لا من قبل جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام فحسب، بل من قبل حزب والله والنفوذ الإيراني كذلك، والذي جعل المنطقة الممتدة من بحر قزوين إلى البحر الأبيض المتوسط وحدة عسكرية أمنية واحدة. لذلك فإن ترمب يعادي إيران بقدر ما يعادي خصومها من التنظيمات السنية المتشددة، لكنه لا يعادي النظام السوري، البقية الباقية من سايكس بيكو، إلا بقدر كون هذا النظام حليفاً لإيران وحزب الله.

ويراهن مخططو ترمب الإستراتيجيون على أن ازدياد النفوذ الروسي في سوريا سيأتي على حساب النفوذ الإيراني، وإن كان خيط حياة دمشق معلقا بموسكو الصديقة لإسرائيل اليوم، والصديقة لواشنطن غداً، لا بطهران العدوة لكل من واشنطن وتل أبيب، فإن هذا لا بد أن ينعكس إيجاباً على علاقة دمشق بكل من إسرائيل وأمريكا. وليس إرسال عبد الفتاح السيسي قوات إلى سوريا إلا من هذا الباب، باب تعليق نجاة دمشق بأصدقاء إسرائيل لا بأعدائها.

وترمب يركز في خطابه السياسي على مقاتلة الإسلاميين جميعاً، لأن كراهيتهم تجني له شعبية بين قاعدته الانتخابية من الأمريكيين البيض منخفضي الدخل والتعليم. وهو يريد أن تجلب كراهية المسلمين له حب الأمريكيين كما جلبت كراهية اليهود حب الألمان لأدولف هتلر وغيره من فاشيي أوروبا في القرن الماضي. وهو لا يريد أن يتكلف قتال الإسلاميين بنفسه، فإن تطوع الروس أن يقاتلوهم بالنيابة عنه فإنه سيكون سعيداً بمساندتهم.

التغير في السياسة الخارجية الأمريكية سيء، لأنه عودة لكلاسيكيات الاستعمار الأمريكي غير المباشر لمنطقتنا بالاعتماد على الديكتاتوريات العسكرية العربية وإسرائيل.

وإن كان الروس سيقاتلون له نصف الإسلاميين الراديكاليين فقط، أي التنظيمات الإسلامية السنية المسلحة، فإنه سيوكل لإسرائيل أن تقاتل له النصف الثاني، أي حزب الله وإيران. وكل ما عليه فعله هو إقناع الروس بعدم معارضة ذلك.
 

وإن العمائم واللحى تزعج ناخبي ترمب سواء كانت لحى سنية أو شيعية، وفقراء الجنوب الأمريكي البيض ليسوا بالضبط فقهاء في تاريخ الفتنة الكبرى وما جرى في سقيفة بني ساعدة. ثم إن إيران يمكن أن تصبح بوابة للصين على الخليج العربي، وغرب آسيا عموماً، وهو ما لا يريده ترمب.

ولدواعي التبسيط إذا سمحنا لأنفسنا باقتباس اللغة الطائفية التي تعج بها المنطقة، فإن ترمب يريد أن يوكل للروس مقاتلة السنة، ولإسرائيل مقاتلة الشيعة. فالسنة والشيعة عنده سواء، كلهم أعداء لأمريكا وإسرائيل، وكلهم "إسلام راديكالي شرير" بتعبيره.
 

وإن بدا سكوت روسيا عن ضربة إسرائيلية للمنشآت النووية الإيرانية أو غزو إسرائيل للبنان غريباً لبعض القراء، فما عليهم إلا أن يتذكروا موقف الاتحاد السوفييتي من قصف إسرائيل للمفاعل النووي العراقي وغزوها للبنان في أوائل الثمانينيات، وقد كان النظام العراقي في ذلك الوقت حليفاً لموسكو.
 

إن التغير في السياسة الخارجية الأمريكية سيء، لأنه عودة لكلاسيكيات الاستعمار الأمريكي غير المباشر لمنطقتنا بالاعتماد على الديكتاتوريات العسكرية العربية وإسرائيل. ثم هو يأتي في إطار تصالح مع روسيا لا يترك للعرب حرية المناورة التي كانت موجودة لديهم أيام الحرب الباردة.
 

ليس لنا الآن إلا أنفسنا. وتوحدنا سنة وشيعة، مسلمين ومسيحيين، إسلاميين وعلمانيين ضد الاستبداد والصهيونية والامبريالية الجديدة، ضرورة بقاء. ثم لا بد من أن نبدأ بتحسين علاقاتنا بالصين، فإننا قد نجد أنفسنا في خندق واحد قريباً جداً. وإن كان ترمب يبني سياسته الخارجية على كتاب صامويل هنتنغتون القديم، فجدير بنا أن نعيد قراءته ونرى فيه رأينا. وهذا حديث المدونة القادمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.