شعار قسم مدونات

ابني الذي أكمل عقدًا

blogs-ابن
ابني عقدُ مر منذ تَنَفَسَتْكَ الحياةُ مرة أولى، مع تكبيرة فجر أعادت النبضَ لي وقد وصلتُ لحوافِ الموت؛ لأتنفس بك الأمومة مرة أولى.. وأتنفس بك الحياة فرحاً لا ينتهي.. ولأدرك حينها معنى أن تمشي قطع القلب على الأرض، تحميها العين، وتحيطها الدعوات.. عقدُ زمني تكبر به وتكبره، ويكبرك الحلم فيه، مهندسٌ، مصمم، مبدعٌ، فنانٌ، رسامٌ، وأشياء كثيرة أخرى تبزغ عاماً بعد عام، تجعل من أعوامك سنين فرح تعيدني طفلة تمسك بيدك لتصحبها نحو الحلم بألق أكبر..
 

عقدك الأول بني.. كان صعباً تعلمت فيه كيف تحول ثرثراتك الصغيرة في عامك الأول إلى أحرف مفهومة لكلمتين تسبق بهما جميع الثرثرات " ماما – بابا " ثم تكمل حروفاً وأشياء لا أفهمها إلا من إيماءاتك وحركاتك لأصل لما تريد. كان تحدياً لك أن تمشي قبل أن تتم عامك الأول، تتعثر وتقوم وتكمل، مرات ومرات لا تمل، ولا يوهن عزمك، كدرس أول تلقنني إياه أن التعثر لا يغير الهدف!
 

عقد جديد يعلمك أن الكذب على شناعته وقبحه وسوئه، هو الأقرب للجميع من الصدق.. وأنهم يتخذونه منجاة لكنه طريق هاوية لا قرار لها

ثم انطلقت للحياة.. عقل مفكر يخضع كل شيء للنقاش والموازنة.. تعلمت فيه كيف تُحبَّ وكيف تخبر من تحبهم بحبك، كيف يغنيك العناق عن مسافات حديث، وكيف تغنيك النظرة عن ساعات عتب.. وكيف تستخدم الصمت لتحاسب نفسك على زلات وهفوات.. أو عتب أم، وتوجيه أب.. وأضعك اليوم على مشارف عقد جديد.. هو الأصعب بني. عقد سيجعلك تضع كل مبادئك وقيمك على المحك، وتخضعها لمحاكمة قاسية، في واقع لا يرحمك لكني واثقة من فطنتك ليكون حكمك منصفاً عادلاً لا يزيغ مع كل المتغيرات..
 

عقد جديد يعلمك:
أن الكذب على شناعته وقبحه وسوئه، هو الأقرب للجميع من الصدق.. وأنهم يتخذونه منجاة لكنه طريق هاوية لا قرار لها. أن الأرض على اتساعها قد تضيق بك وتخنقك.. لحظة بعدك عن خالقك. أن الكون بمساحاته قد لا يتسع لهويتك ووطنك، وهم شعبك الذي يكبر بك. أن العالم لا يشبه قلب أمك.. لا يشبه احتوائها.. مداراتها لتعبك.. إحساسها بألمك.. لهفتها عليك..

أن بقاء الأشخاص من حولك أمر مؤقت محكوم بمكان وزمان وظرف، وأنك سنفارق من تحبهم، وسيستقرون في قلبك ذكريات لا تنتهي، وستعيش أياماً وليالٍ ترى فيها ذاكرة فَقْدٍ تتعبك، تبكيك وجعاً، لكنه أمر طبيعي بني.. وستمر الأيام لتنسى وجعك.. تذكر دائماً " أن هذا الوقت سيمضي " مهما كان صعباً..
 

ستقابلك تجارب لا تتساوى مع عمرك.. ستتعلم معها أن التجارب التي تأتيك مبكراً لا ترحم عقدك الصغير؛ هي خير لك، تجعل وعيك يفوقك هامة، وأنها ميزة لم يحظَ بها أقرانك.. ستمر عليك أيام تشتاق لأشخاص تحبهم.. لا تخجل من شوقك لا ترهق أعوامك القليلة بالكتمان، لا تخفض صوتك حين تعلن عن حبك لهم ولا تعبر عن شوقك بالغضب، الغضب بني يفقدك نفسك.. يضيِّع بوصلتك، ويجعل طريقك بعيداً لا تدله ولا تراه..
 

ستتعلم بني أن قوانين المساحة التي درستها كاذبة؛ وأن مساحة ذراعيَّ حولك هي أوسع من الأرض وأميالها. بني .. في عقدك الجديد كن أنتَ.. كن أنت بكامل شغفك.. حبك.. شوقك.. خوفك.. طلاقتك.. وعيك.. إدراكك.. وأحلامك.. أمنيات فرح وسعادة تسبقك طولاً تمتدُّ بامتداد أفقك.. أمك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.