شعار قسم مدونات

"ضد الأحزاب" الفاشية الجديدة في اليمن

Yemenis hold a huge Yemeni flag during a rally in support of the newly formed supreme political council, Sana'a, Yemen, 20 August 2016. According to reports, the supreme political council, formed by Houthi rebels and ex-president Ali Saleh three weeks ago, called on Saudi Arabia to direct negotiations to put an end to the 17-month conflict in Yemen, in an attempt to bypass stalled UN-sponsored peace talks between the Houthis and Yemen's Saudi-backed government.

تختار الشعوب وسيلة واحدة لحسم خياراتها الوطنية: السلاح والعنف أو السياسة، في اليمن اختارت النخب عام ٩٠ أن تسلك السياسة وتعتمد التعددية، لكنهم بعد أن اختاروا التعددية رفضوا الديمقراطية، اختاروا السياسة وذهبوا نحو الحرب. لا يمكن تصور تعددية سياسية مزدهرة وناجحة في ظل ديمقراطية مشوهة وحالة حزبية عقيمة تتمترس خلف أيديولوجيات إقصائية ترى الحق احتكاراً وامتيازاً.
 

كما لا يعقل أن نؤمن بالديمقراطية والسياسة ثم نسهم في تخليق حالة مشوهة منهما بتعمد إزاحة خيارات الشعب جانباً وبعيداً عن الممارسة العملية، فيمن يحكم وكيف يحكم، فهذه الحالة يمكن تسميتها بأي شيء إلا المغامرة بإطلاق "ديمقراطية" عليها. على أنه لا يمكن بتاتاً تصور ديمقراطية سليمة وتعددية ناجحة وتجربة حكم جيدة، بلا أحزاب. العداء للأحزاب نازية متجددة في كل بلد، لا تبدأ الديكتاتوريات الفردية والجماعية مسيرتها إلا بسفك دماء الأحزاب وإراقتها على الملأ.
 

لا تخبرونا أنكم عازمون على تأسيس حزب وحيد وتأميم الحياة السياسية برمتها، فهذه مقدمة حقيقية والمفتاح السحري الذي سيوصلنا لسلسلة لا متناهية من العذابات

نتفهم حالة السخط من التجربة الحزبية الممتدة لأكثر من عقدين من الزمن والتي لم تثمر في نهاية الأمر إلا الحرب والجوع والمأساة، لكن هذا الأمر ليس خطأ الأحزاب وليس ذنب الحزبية ولا هو نتاج للتعددية السياسية كقيم ديمقراطية، بل هو سبب مباشر وامتداد طبيعي للتآمر على كل ذلك، منذ ولادة التجربة الحزبية والسلطات الحاكمة تسعى بكل جهد لإفراغ التعددية السياسية من كل قيمة، وقد نجحت في ذلك إلى حد بعيد، وها نحن انتهينا بجماعة لا تنظر إلى الديمقراطية والتعددية السياسية إلا ضمن قاموس "اللعنة" المتجذر في فكرها، وأنا أعني الحوثيين بالطبع.
 

أما علي صالح فيمكنه التعايش مع أي شيء ومع أي خصم، يمكنه اختراع المأساة ثم تحويلها إلى ملهاة، لكنه لم يتقبل يوماً ديمقراطية كاملة وتعددية سياسية ناجحة ولن يفعل. لا يمكن ببساطة أن نصحو ذات يوم ثم نمد أيدينا لهاتفنا المحمول ونكتب بوستاً ينادي بتجريم الأحزاب وإلغاء وجودها ثم ندعو لحزب وحيد يدير البلاد مع الوعد بحالة مثالية من التعايش، فهذا دفن للرؤوس في الرمال وطوباوية عفنة.
 

يوجد لدينا صراع بين فئات مختلفة، فئات اجتماعية وسياسية واقتصادية، وهو صراع حتمي وطبيعي ودائم الوجود ولا يمكن إلغاؤه بتاتاً، وقد أنتج العقل الإنساني وسائل لحسم هذه الخلافات أو لإدارتها وقد أسهمت هذه الوسائل/ النظريات في الحد من الأضرار المترتبة على وجود هذه الصراعات، إضافة إلى أن التجارب التي امتلأ/ يمتلأ بها هذا الكوكب أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك فعاليتها إلى حد كبير في حسم المعضلة الأزلية " من يحكم وكيف يحكم".
 

ما هو البديل الذي تقدمونه عن التعددية السياسية والحزبية؟ بالله عليكم لا تخبرونا أنكم عازمون على تأسيس حزب وحيد وتأميم الحياة السياسية برمتها، فهذه مقدمة حقيقية والمفتاح السحري الذي سيوصلنا لسلسلة لا متناهية من العذابات، وهل ينقص هذا الشعب شيء من العذاب؟!، فلتتوقفوا إذاً عن هذه الحماقات فلدينا مسودة دستور ناجزة ومسار سياسي واضح أسهم أكثر من ٥٦٠ ممثلاً عن الشعب في إنجازه واستغرق بناؤه آلاف الساعات ومئات الأيام والكثير، الكثير جداً من الدم والعذابات.
 

لم يدعو أحد لاقتلاع المؤتمر الشعبي العام، وهو حزب المخلوع صالح، عن الحياة السياسية، في ذروة الثورة لم يعتد أحد على الفكرة الحزبية كما تفعل بعض النخب الآن. في الحقيقة ثمة شوفينية تتجذر كل يوم وتقف خلف العداء للأحزاب وهي شوفينية تغذيها أطراف ما ألفت الديمقراطية ولا امتلكت يوماً مشروع بناء ويحفل تأريخها بالهزائم والانتكاسات والدم، وتأخذ الآن هذه الأطراف بفعل الأخطاء المتراكمة إبان حكم المخلوع صالح، وضعاً قيادياً في جنوب البلد.
 

ليس من الحكمة أن نضع علبة ديناميت في أسفل هذا البناء الضخم "الأحزاب/ التجربة الحزبية" ثم نبحث لاحقاً عن بيت يقينا من المطر

الشعبوية تملأ الأرض، ولن ينجو منها أحد، والديماغوجيا استراتيجيتهم أجمعين. أما في الشمال اليمني فمن الطبيعي جداً أن تعادي ميليشيا ورجل عصابات حكم البلد ٣٣ عاماً التجربة الحزبية، المستغرب هو أن تندفع قوى وشخصيات أخرى لهذا المنحدر بحسن أو سوء نية.
 

دعونا نكررها للمرة الألف: العداء نحو الأحزاب تمهيد لخلق حالة سياسية تستثني الديمقراطية أو تقوضها كخيار ارتضاه شعب كامل كوسيلة لحسم الصراعات السياسية وإخماد الحرائق التي تشتعل في البلد إلى الأبد. العداء نحو التجربة الحزبية مدخل نحو فاشية جديدة تأخذ الدعوات لها صوراً متعددة ومتغيرة بتغير المنطقة الجغرافية في الشمال والجنوب، والفاشية كخيار أشد فشلاً من الفشل نفسه، فلا إيطاليا ولا ألمانيا ولا دول أوروبا الشرقية التي جربت أنواعاً من الفاشية حققت نمواً ولا وحدت وطناً ولم ينقذها أحد إلا تلك النظريات والممارسات العملية التي حافظت على التنوع وأعادت الكلمة للشعب باعتباره حكماً لكل المتصارعين.
 

إنه لمن الجيد نقد التجربة الحزبية والممارسة الديمقراطية والعمل على تقويمها بما يتلاءم ووظائفها وأهدافها المرجوة، غير أنه ليس من الحكمة أن نضع علبة ديناميت في أسفل هذا البناء الضخم "الأحزاب/ التجربة الحزبية" ثم نبحث لاحقاً عن بيت يقينا من المطر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.