شعار قسم مدونات

جدّودة..

blogs - jordan

نسيمها الأنثوي الفلاّحي قديم كتُحفة؛ تأتيك من تاريخ الحجارة التي سكنتها قبل أن تنتقل "عنوة" بقرار من الدولة للعيش في منطقة أخرى من القرية أكثر تمدناً، كانت تقطن هناك إلى جانب الأعمدة الرومانية في الشمال، لكنها كانت أجمل وأعمق قدراً وأكثر منها قِدماً وحنيّة.
 

"جدّودة" هكذا نسمي جدتي.. وهكذا تدلّع هي الجميع من أحفاد وغير أحفاد -إشارة إلى أنها جَدّةُ من تخاطبه-، وبمثل ما تُخاطِب تُعامِل.. فقلبها يتسع كل الناس صغيرهم وكبيرهم.
 

جدي وجدتي بقيا على طبيعتهما وقِدمهما، بل ازدادا طيبة وحباً كلما ازدادت العائلة حفيداً، وظلا يزرعان الحديقة الخلفية بكل ما أوتيا من حبّ للطبيعة.

تضطرك "جدّودة" أن تعيش البدائية الرائعة، حيث الخبز الشهي، والقهوة الفلاحيّة ذات النكهة المحلية الخالصة، وحيث الطعام المختلف الطعم الذي يبدو قادماً من مشهد تاريخي.. ففيه نكهة "جدّوديّة" تشبهها، وحتى طعم البيض في مقلاها القديم الذي يُصرّ جدّي على الاحتفاظ به له نكهة أخرى، ولست أدري حتى اليوم كيف كانت بضع بيضات تكفي جيوش الأحفاد في ليلة جُمعة صيفية عامرة.
 

وحينما يطلّ الربيع من كل عام تحصد "جدودة" بوتيرة وهمّة الأعشاب الأرضية التي تؤكل وتطبخ كـ"الخبّيزة" و"العِلت" وغيرهما، وتوزع الغلات الربيعية من "الميرمية" و"النعنع" وسواهما لمن يزورها من أبنائها وبناتها كي يقدّمون من حبّها للأحفاد، وفي موسم حصاد الزيتون تراها أول من يبارك الشجرات وهي تلتقط حبات الزيتون وتمسح عليها بيديها الحانية بينما تدعو.. علّ دعائها يزيد من إنتاج الزيت الموسمي الذي صار شحيحاً عاماً بعد عام.
 

أذكر حزنها العفوي حينما انتقلوا إلى المنطقة الجديدة من البلدة، قالوا لهم إن الهدف "ترميم الآثار القديمة وجعلها متاحف ومزارات ومطاعم سياحية"، هجّروا كل من كان يسكن حول الآثار في البلدة القديمة وعوضوهم بمساكن بنتها الحكومة في منطقة أخرى لهذا الهدف، فكانت البيوت الجديدة متهالكة قبل أن يسكنوها بسبب الفساد في البناء ليضيفوا إلى معاناة الناس وحاجتهم معاناة أخرى.
 

أخذوا معهم قلبها ليبقى ساكناً هناك في بيتها الحجري القديم بغرفه المتقابلة وقططه التي تسرح بحرية في الساحة المفتوحة، وبخَانِه القديم ودجاجاته وبقراته، تماماً كما أخذوا معهم ذكريات لنا.. في البيت الذي حولوه لإدارة الآثار.
 

لكن جدي وجدتي بقيا على طبيعتهما وقِدمهما، بل ازدادا طيبة وحباً كلما ازدادت العائلة حفيداً، وظلا يزرعان الحديقة الخلفية بكل ما أوتيا من حبّ للطبيعة التي اجتمعت في قلبهما.
 

"جدّودة".. لا تعرف سوى التلفزيون الأردني من خلال شاشةٍ قديمة رفض جدّي أن يغيّرها أو يضيف عليها الساتالايت، يطالعان أخبار الثامنة معاً كل يوم، فتعلق على هذا الخبر وتزمجر في هذا الصحفي الذي يتحدث عن الأسعار وتخاطب المذيعات بلهجة غاضبة مطالبة إياهن بالاحتشام والستر، وتلوّح بيديها غاضبة على صور القتلى والجرحى في سوريا والعراق واليمن وفلسطين، متحسرة على مناظر البيوت المهدمة والدمار.. وتبكي.
 

وفي المساء تتابع المسلسل الأردني بشغف الأطفال، وتعيشه معهم بكل تفاصيله المعادة والرتيبة دون كلل.
 

حتى النمل حينما كان يتسلل إلى مطبخها تخاطبه بودّ وتؤنبه كأنه طفل، ثم تزيحه بعيداً برفق آمرةً إياه مازحة ألّا يعود وكأنه سيسمع الكلام.

وحينما اختطف الموت خالي من بين يديها في حادث سيارة.. شابَ وجه جدّودة النّضِر الاصفرار والشحوب، وبهتت عيناها الزرقاوان بعد مضي سنين، لكنها ظلت الأجمل في حزنها وأمومتها.. فما تزال توصي كل من يغادر البلدة مبتعداً أو مسافراً بتوخي الحذر وما تزال تبكي على كل مسافر أو ذاهب نحو العاصمة أو أبعد بقليل.
 

الأمراض بدأت تنهش عظامها الطرية، والضغط العالي والسكري باغتاها فصارت أنحل وأضعف، وعلى الرغم من المرض؛ ما زالت "جدّودة" تقدّم الحب للجميع بصدر لا يعرف مدى، تتمتم بأدعية تحفظك وتوفقك وتسير معك أينما حللت، تبتسم في وجهك، وتقبّل خديك بحنو يُدمع عينيك.

حتى النمل حينما كان يتسلل إلى مطبخها تخاطبه بودّ وتؤنبه كأنه طفل، ثم تزيحه بعيداً برفق آمرةً إياه مازحة ألّا يعود وكأنه سيسمع الكلام، فحسّ الفكاهة الذي ما فقدته يوما ظل يظهر بين الحين والآخر قبل أن تعاودها هجمات المرض.
 

"الحُلوة الحنونة مريضة".. يتبادل الأبناء والأحفاد في البلاد والغربة في مدن وأماكن مختلفة من العالم رسائل الحزن والدموع الإلكترونية.. ماذا عسانا نفعل سوى الدعاء لها بالشفاء.. والبكاء؟
 

"جدّودة" اليوم تنام أكثر.. وتصحو على وجع رأس لا يرحم، بعد أن كانت لا تعرف أن تجلس دون حركة طوال النهار، ونحن نعرف.. أن اليوم الذي تقعد فيه جدودتُنا عن لملمة العشب من حول نعنعاتها، أو تتوقف فيه عن سقاية زريعاتها في الشرفة الخلفية لبيتها المواجه للجبل، ندرك عندها: أن الحبّ والحنان والدفء والبساطة قد غابت عن هذا الكوكب.
_________________________________

مصدر الصورة: visitjordan.com

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.