شعار قسم مدونات

الحساسية تجاه النقد.. هل تغير الواقع؟

blogs - youth
حضرت قبل فترة لجلسة نقاشية مع مثقف وناقد موريتاني، تحدث فيها عن تركه للنقد والتوجه لحقل معرفي آخر بسبب غياب أرضية مناسبة للنقد في موريتانيا، حيث سرد قصة عودته لموريتانيا بعد سنوات من التحصيل العلمي خارجها، وقيامه يومها بنقد عمل أدبي لأحد أدباء البلد، وهو ما جلب له الكثير من الشتاؤم والتهجّم، وقد اتصل به الأديب المعني ووبخه بوقاحة، وعزا نقده لعمله لوجود صراعات تاريخية بين قبيلتيهما واتهمه بالحسد.

حينها قرر أن ينسحب من معارك النقد الأدبي ف"النخب" هنا لا تتقبل النقد، وكل نقد يعتبرونه مجرد حسد وغيرة وينزعون لاستحضار الحساسيات القبلية والعصبية، ويتخطون صاحبه نحو قبيلته وجهته، يحدث ذلك بدل التمعن فيه والاستفادة منه إن كانت له فائدة.

نحن نعيش حالة مرضية، نرفض أن ينتقدنا الغير رغم أننا" نحلل" وننتقد الواقع في بلدان عربية أخرى بل في فضاءات شديدة البعد.

**
قبل القمة العربية التي عقدت قبل أشهر في العاصمة نواكشوط، انتفضت "النخب" الموريتانية أو الشخصيات المتصدرة للمشهد العام، وذلك بعد تصريحات لوزير الصحة اللبناني وائل أبو فاعور حول تحضير موريتانيا للقمة العربية، قال فيها، أن موريتانيا غير جاهزة لاستضافة القمة وغير مطابقة للمواصفات وأن الوفد اللبناني سوف يبيت في المغرب بدل نواكشوط، بسبب الوضع السيء في موريتانيا؛ فجاءت الردود تهجما بغيضا على لبنان وشعبه وتاريخه، ولم يكن للمنطق مكان في الجمل والأقوال المتدفقة كالشلال الهائج؛ لا صوت يعلو فيها على الزعاق المرضي والسعار العصبي-طبعا كانت هناك بعض الأصوات المختلفة لكنها قلية-.

عزفت ببلاهة سيمفونية تقزيم لبنان وشعبه، أخذهم بعض النخب بجريرة وزير غير دبلوماسي؛ كأنه رد من قبيلة في دهر سحيق، على أخرى، أخذوا شعبا ودولته ب"ذنب" وزير خرجوا ضد حكومته ويتهمونها بالفساد ويقولون أنها لا تمثلهم ويطالبون بمحاسبتها.

قصة لبنان، ليست سوى تكرار لقصص مشابهة، أذكر منها رد الفعل على مقال كتبته قبل سنوات، الصحفية المصرية هويدا طه، عن موريتانيا، تأسفت فيه لوضعها وتطرقت لبعض مظاهر "التخلف" فيها، فكان الرد، هجوما عليها وقذعا لدولتها، لم نفكر في صدق ما قالت ولا منطقيته؛ فرد بعض نخبنا عليها، كان منطلقا من رؤية أنه لا يجب أن يتحدث أحد عن وضعنا بغير التمجيد والتبجيل.

ولم يختلف الأمر كثيرا، حين صرح الصحفي والكاتب المصري الراحل محمد حسنين هيكل للجزيرة، وقال إن موريتانيا دولة هامشية وصغيرة تاريخيا وجغرافيا، كان ذلك تعليقا على التجربة الديمقراطية بعد الإطاحة بنظام الطاغية معاوية ولد سيد أحمد الطايع(1984-2005)، وأكد أنها لن تؤثر ولا تصلح لأن تكون نموذجا بالنسبة لبعض الدول العربية، وحين زارنا الصحفي المغربي عدنان ياسين وكتب مقالا عن مدينة نواكشوط أورد فيه بعض الملاحظات عن المدينة، وعن بعض ملامح العشوائية فيها، نال الصحفي والمغرب وشعبه نصيبا باذخا من السب الموريتاني النخبوي" الأصيل"!.

لكن فيما يبدو أن تلك الخصلة ليست موريتانية صرف؛ فحين غرد الكاتب الموريتاني محمد المختار الشنقيطي عن حادثة تدافع مشعر منى التي وقع ضحيتها العديد من الحجاج، حيث قال أن السبب هو الإهمال والفساد، كان الرد السعودي غاضبا ومتشنجا وعنصريا بفُحش، تجاوز الشنقيطي نحو موريتانيا وشعبها، حيث دخل بعض المغردين السعوديين، حملة من التباري في ثلب موريتانيا وشعبها ومعايرتها بفقرها وضيق شوارعها وضعف البنى التحتية فيها، لم يلتفت الكثير منهم لأن يرد على انتقاد الشنقيطي بما يفنده، كانت الرسالة واضحة لماذا هذا الموريتاني يتحدث عن شؤوننا، لماذا ابن الدولة الطرفية الفقيرة يتطاول على "أسياده"؟؛ فكان التعالي منطق الكثيرين.

والحال لم يختلف كثيرا عندما تحدث صحفي قطري عن مصر، حيث كان الصراخ وتقزيم قطر هو الحل والرد المفضل لدى البعض، تجاوزا الشخص ونزعوا للسخرية من الدولة والشعب.

إذن هي ظاهرة قد لا يكون تجنيا القول بأنها عربية، طبعا مع الكثير من التحفظ والتخوف من السقوط في فخ التعميمات الاستسهالية الساذجة.

**
نحن نعيش حالة مرضية، نرفض أن ينتقدنا الغير رغم أننا" نحلل" وننتقد الواقع في بلدان عربية أخرى بل في فضاءات شديدة البعد -حتى كوريا الشمالية المغلقة لا تسلم منا- نعادي أنظمة وسياسيين في دول أخرى وهذا حقنا، لكن في نفس الوقت لا نسمح برأي أجنبي غير مبجل لواقعنا وحتى لنظامنا الظالم.

الحساسية المفرطة تجاه النقد وسهولة اتخاذ الشعوب الأخرى أعداء لا يستفيد منها سوى الأنظمة الفاشلة التي تحاول استغلالها للتغطية على فسادها.

أحيانا، تفرض علي نقاشاتنا التساؤل، هل نعتقد بحق أننا محور الكون؟ فلو كان ذلك ظننا؛ فتلك كارثة محزنة ومقلقة، تدل على عدم الوعي بمأساتنا، فنحن في الحضيض في الكثير من ملامح حياتنا، وحتى لو كان وضعنا أحسن فالوصول لتلك المرحلة أمر يثير الخوف.

وأحيانا أخرى، أقول أن السبب في هذه الحساسية الشديدة تجاه نقد الآخر لنا والرد بأسلوب العصبية القبلية، هو أننا لم نبارح بعد مرحلة تفكير ما قبل الدولة. أيضا، أظن أننا نعاني هزيمة نفسية، نرى دول العالم وشعوبها تتحسن ظروفها ونحن لا نبارح مكاننا بل نسير بتغنج نحو الحضيض، وهو ما يعني أن ردودنا مجرد تحصين لأنفسنا من القبول بفشلنا الذريع، لا نريد أن نرى عيوبنا أو أن يكتشفها غيرنا أو نمارس نوعا من الصراخ بأننا لسنا وحدنا الفاشلين، نصرخ حتى نصدق كذبنا؛ وكأن الرد بهجومية على الشعوب الأخرى قد يعالج واقعنا المزري، ويطور دولتنا المنهكة فسادا.

الحساسية المفرطة تجاه النقد وسهولة اتخاذ الشعوب الأخرى أعداء لا يستفيد منها سوى الأنظمة الفاشلة التي تحاول استغلالها للتغطية على فسادها وفشلها الفاضح، تحول بها سير النقاش نحو حروب وهمية لتنجوا من أضواء النقد الكاشفة لفشلها المدمر.

خلاصة القول، هذه الحساسية المرضية لا تغير واقعا والارهاب الفكري لا يحجب الحقيقة وهناك أقلام وأصوات لا ينفع معها عكس الناقد الذي ذكرت قصته في بداية التدوينة.
___________________________________________________________ 

روابط متعلقة:
هويدا طه: زيارة إلى موريتانيا:الأولى.. والأخيرة
موريتانيا مرة أخرى: الغضب من الحقيقة هو سر التخلف الحضاري في بلدان العرب
مقال ياسين عدنان
تصريح هيكل

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.