شعار قسم مدونات

مدخل لقراءة الواقع (1).. سؤال الراهن الثقيل

تكنولوجيا

نحن في أزمة. لا تبدو تلك حقيقةً مفاجئة بطبيعة الحال. فإن ملامح تلك الأزمة، بل وتجلياتها ووطأتها؛ صارت جاثمة على تفاصيل حياة أغلبنا اليومية.
 

لم تعد الأزمة حبيسة أروقة النخبة والمثقفين والفقهاء، ولم تعد تتشكل أو تنحصر في أزمة (فوات حضاري) أو (انسداد تاريخي) أو حتى (تاريخية الفكر الإسلامي) –
هل لاحظت أن جميع تلك الأسئلة تاريخية رغم أنها في سياق البحث عن حل معضلة الواقع؟- ؛ فضلًا عن مشكلات الحرية والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، أو جدليات تطبيق الشريعة أو ماهيتها – رغم أن كل هذه العوامل والإشكالات متحققة بنِسب متفاوتة -.
 

عوامل عديدة جدًّا أدت إلى شيوع فكر الأزمة والشعور بها، بما يعني التأزُّم الفعلي؛ في حياتنا اليومية. ولكن لنا أن نختزل تلك العوامل في عاملين أساسيين: إتاحة المعرفة، والتخلف المعيشي.
 

التوسع العرْضي الهائل لوسائل المعرفة، وبخاصة تلك التي تعبر إلى الناس من خلال شبكة الإنترنت: أدَّى فيما أدَّى إليه من آثار سوسيولوجية وسيكولوجية إلى ما أسميه: تسييل المعرفة. تسييل المعرفة ذلك الذي أتاح أكبر كمية من المعلومات لأكبر كم من الأشخاص، بما ترتب عليه أكبر كم من التحليلات والرؤيات والتعبيرات عموما، والقرارات وهذا أخطرها. من الصحيح أن هذا قد أثمر بعض الإيجابيات من وجهة نظر ما، أهمها: أنه قد أتاح قاعدة أوسع من المعرفة – قد يقال: الوعي؛ خطأً -، وهو الأمر الذي قد يكسر من كهنوت المعرفة ويفكك تواطؤات المجتمع العلمي – وفق تصورات ثقافوية ما بعد حداثية أرجئ تحليلها الآن -، ولكن هذا التسييل وتلك الإتاحة، لم تخل من سلبيات خطيرة.
 

فعلى الجانب الآخر: يمكن إجمال تجليات هذا التسييل السلبية في أثرين ظاهرين ومهمين:

الأول: خفض مستوى الجودة والإتقان

في غالب المنتجات الفكرية والثقافية الصادرة عن العرب. فالمعارف التي كانت حكْرًا على الخبراء والمتخصصين؛ لم يعد من اللازم لخوض غمارها أكثر من وسيط إلكتروني ووسيلة اتصال بالإنترنت.
 

تقوم وسائل التواصل الاجتماعي، ومنصات النشر الإلكترونية والفضائية، بنفس الدور الذي قامت به الصحف والنشرات في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا الحداثة، ثم مثيلاتها في أوائل القرن العشرين العربي. الحداثة بنت الأنوار، التي قالت للإنسان: لقد بلغت سن الرشد، ولم يعد من المقبول أن ترى بعين غيرك، بل يجب أن تفتح عينيك وتنظر بنفسك، فقط تنقصك الشجاعة لفعل ذلك الشيء، كما أجاب كانط يوما إجابة شهيرة على سؤال (ما هي الأنوار؟)، ولكنها لم تخبره كيف يكون قادرا على النظر بنفسه، وكيف يفرق بين الشجاعة والحماقة، بطبيعة الحال.
 

الثاني: تغول العام على الخاص

لقد أصبحت الحروب والصراعات والمشكلات الفكرية والأيديولوجية والدينية، والتي بعضها معمق جدًّا؛ واحدًا من أفراد أسرتك الصغيرة حتى أمست أقرب إليك من حاشية سريرك.
 

هذا التغول للعام على الخاص: أصبح يطاردك وإن هربت منه، فليس هو من قبيل الأشياء التي تتركك إن تركتها. هو أكثر شراسة من قتيلة حبٍّ تعلم كل تفاصيل حياتك، وحتى أرقامك السرية. لا يمكن أن تنفك من هذا الحصار إلا بأن تنفك من ذاتك. من يقبل هذه التضحية إلا أحمق؟
 

مشكلة الراهنية – كما أعبر – دخلت المسجد، وقاعة الدرس، وأروقة البحث العلمي بأنواعه، واجتماع الأسرة، حتى العلاقات العاطفية. كثير من الأوقات والطاقات والإمكانات أصبح مهدرًا في فضاء اللاشيء في اللهاث خلف كوارث عالمنا العربي وتقلباته المدهشة. لنا أن نتخيل أن أثر الحوادث العمومية، وبخاصة ذات الطابع الصراعي العسكري الذي لا يمس حياة المواطن اليومية: لم يكن يأخذ هذا الوهَج والسيطرة على المجتمعات الخاصة، العلمية أو الاقتصادية، في عصور سبقت للمسلمين، على خلاف ما قد نكون متخيلين. صورة كالتي عبَّر عنها الرحالة الأندلسي الشهير ابن جبير (614ه/1217م) في خضم حروب الصليبين واحتلالهم لمقدسات الإسلام، بلهجة لا تخلو من أسًى "أهل الحرب مشتغلون بحربهم، والناس في عافية، والدنيا لمن غلب".
 

والذي يمكن إضافته هاهنا أن نفس التسييل المعرفي سابق الذكر قد أنتج هذا التغول، فمع هذا الصبُّ المتواصل من المعلومات المتلاحقة حول الأوضاع الإشكالية التي يعيشها العرب؛ أصبح من المستحيل عدم الاكتراث به، فنحن ببساطة لا نستطيع أن ننعزل عن اعتقاد رأي ما إزاء مشكلة واقعية أخذت بُعدًا فكريًّا. الحياد في المسائل التي من هذا النوع، والتي لا نتمكن من الحسم حولها هو قول "غاية في الحماقة"، كما عبر وليم جيمس من قبل، فالأمر ليس خاضعًا لمجرد الرغبة في الحياد، ولكن خاضع للقدرة عليه، تلك القدرة المتعذرة بسبب ميولنا النفسية التي تلزمنا بالاعتقاد حتمًا، ولو لم يكن ذلك الاعتقاد متكاملًا أو موضوعيًّا، فالعالم الآخر الحيوي بالنسبة لنا – العالم الخفي كما سماه جيمس – لا تربطنا به علاقة لا مبالاة أو بوصفه لا يعنينا، لأن الموضوعات العملية والحيوية لا تخضع لعامل عقلي محض، ولكن لتركيبة من العوامل النفسية والعقلية معًا.
 

الأثر العملي لتلك المشكلات العميقة التي نعاني آثارها لم تتمثل في الضغط على الشعور الديني، والخوف على مستقبله، بالنسبة للإسلاميين، فضلا عن قضايا العدالة والحرية، بالنسبة لغير الإسلاميين، فضلا عن سائر ما يمكن أن نورده من قضايا ذات صبغة نظرية. فالتخلف المعيشي هو الآخر عضَّ أصابع أغلب الشرائح العمرية والاجتماعية لعالمنا العربي. لم تعد أسئلة الهوية والآخر، والشريعة والعلمانية، والحداثة والتخلف، والاستئناف والنهوض، والخصوصية والعولمة؛ لم تعد أسئلة معلقة في الهواء، يتقاتل عليها المتخصصون والنخبة، ويتسلى بها بعض شداة الثقافة من غيرهم. تلك الأسئلة ترجمت إلى دماء وفساد ومشكلات خطيرة اجتماعيا واقتصاديًّا.
 

في أزمنة الانحطاط والسفول كالتي نحياها منذ مدة ليست بالقصيرة، ومع استطراق التعاطي مع ذلك الانحطاط إلى شرائح واسعة جدًّا على نحو لم يقع من قبل: أصبح سؤال الراهن ضرورة ملحة، تُثقل بحِمْلها على كاهل الحياة التي هي أسمى من الفكر. ويغدو معها الفرار مستحيلًا.
 

ففضلًا عن راديكالية الحركيين المحرجة للنخبويين؛ فإن الأمانة الأخلاقية تستدعي تشكيل مواقف تجاه الواقع، لا يغني عنها الانسحاب الكامل، سواء بدعاوى دينية أو ثقافوية، ولا يستفزها مجرد الرغبة في التعاطي لأجل التعاطي.
 

ولكن: ما المشكلة؟ وما حدود هذا التعاطي؟، وما محددات بناء تلك المواقف أصلًا؟ ما هي قدراتك وأدواتك النظرية والخبراتية والتأثيرية التي تملكها لتشكيل موقف؟ ما حدود رؤيتك للواقع وتفريقك بين الرغبوي والموضوعي؟ وأخيرا: هل تملك شجاعة تبني الموقف، وشجاعة تعديله؟
 

بل ربما أعتقد أن الأهم من الإجابة على تلك الأسئلة: أن نبحث عن السؤال المناسب أولًا، ونسائله، وجوديًّا وموضوعيًّا. سننطلق من هذه الملاحظة لاحقًا، فلابد أننا سنتكلم عن المعالجة الواقعية مراتٍ.
 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.