شعار قسم مدونات

الترابي.. ينقض غزله من بعد قوة!

Blogs - Torabi
تابعَ العالمُ العربيُ والإسلامي خلال الأشهرِ الثلاثةِ الماضية علي شاشة قناة الجزيرة شهادةَ المرحوم الشيخ الدكتور حسن الترابي علي عصرِ السودان الحديث، عبر سلسلةٍ من ست عشرةَ حلقة، سرد فيها الشيخُ جملةً من الأسرارِ والتفاصيل، بعضُها كان معلوماً لدي الكثير من المتابعين، وبعضُها الآخر لم يكن متاحاً إلا لخاصةِ الخاصة من المقربين من الشيخ ودوائر صنع القرار في الخرطوم خلال العقودِ الثلاثةِ الماضية.

الكثيرون تركزت تحليلاتُهم ومناقشاتُهم على بعض الجزئيات التي تطرقَ لها الشيخُ في شهادتِه، كقضيةِ محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، والخلافُ الذي نشب بين الترابي والقصر ومذكرة العَشَرة والمفاصلة الشهيرة التي آلت إليها الأمورُ بعد ذلك.

لستُ هنا بصدد مناقشة أيٍ من هذه القضايا، على الرغم من إيماني العميق بأن رجلاً لهُ باعٌ طويلٌ في القانونِ والدستور وخبرةٌ كبيرة في العملِ العام والعدليِ علي وجهِ الخصوص يعلم عِلمَ اليقينِ أن المكانَ الأنسبَ لمناقشةِ معظم القضايا التي جرى الحديث عنها – كقضيةِ محاولةِ الاغتيال علي سبيل المثال – هو ساحاتُ المحاكمِ والقضاء وليس شاشات التلفزيونات، هذا طبعاً إن كان الغرضُ من الإِدلاءِ بالشهادةِ هو إِحقاقُ الحق إن كان حقاً، وليس المكايدة وتسجيلُ نقاطٍ سياسيةٍ، والله أعلم بالنوايا.

القضيةُ التي تهمني هنا كشابٍ في مقتبلِ العقد الثالث من العمرِ – نشأت وترعرعت كالكثيرين من

أكبرُ خذلانٍ للشباب الذين نشأوا على أهازيج الحركة الإسلامية في السودان هو رؤيتهم للشيخ الترابي وهو يعترفُ بضعف الإعدادِ والترتيبِ والإدارة

أبناء جيلي في بيئةٍ وأجواءَ كانت تُصبِحُ وتُمسِي بالحديثِ عن مستقبلِ مشروعِ دولةِ الإسلامِ في السودان، وعن النموذجِ الفذ الذي سنقدمه للعالم أجمع، وعن تضحياتنا وإنجازاتنا التي ستملأُ الدنيا عدلاً وسلاماً – هي خيبةُ الأمل الكبيرة في قائدِ هذا المشروع، الشيخ حسن الترابي نفسُهُ، الذين تبين وبكل وضوح من خلالِ حديثهِ أنه ما كان يدركُ بأي حالٍ من الأحوالِ مآلات المشروع الذي ابتدره وأفنى زهرة حياتهِ في سبيلهِ، ولا كان جاهزاً للإِيفاء بمتطلبات الانتقال من إِدارة التنظيم الحركي الإسلامي إلي إدارةِ دولةٍ كاملةٍ متراميةِ الأطراف.

تبين من خلال حديث الشيخ وبكل وضوح أن قادة المشروع، وهو أولهُم، ما كانوا يدركون "أهمية" و "خطورة" و "تبعات" القرار الذي اتخذوه في العام ١٩٨٩ للاستعانة بالعسكر للاستيلاء علي السلطة، وتثبيتِ رجالٍ من الجيشِ علي رأسِ الدولة، نفي الترابي نفسُه حتي مجرد معرفتِه الشخصية بهم مسبقاُ، حيث أنه ذكر أنه التقي بعضاً منهم لأولِ مرة قبل التنفيذ بأيام قلائل، وربما ساعات فقط.

تبين من خلال حديثِ الشيخِ وبكل وضوحٍ أن قادةَ المشروعِ، وهو أولهُم، ما كانوا يعرفون كيف
يديرون دولةً حديثةً بكل مؤسساتها ووزاراتها وإداراتها المختلفة، فأعملوا مباضعهم فيها، تجريباً وتغييراً وتمكيناً لمن وافقهم في مفاصل الدولة، و إحالةً لمن خالفهم علي ما سُمِيَ بـ "الصالح العام".

تبين من خلال حديث الشيخِ وبكل وضوحٍ أن قادةَ المشروع، وهو أولهم، ما كانوا يدركون أبسط مبادئ التعامل مع السلطة، وأن السلطة المُطلقة مُفْسِدة، لصاحبها أولاً، قبل أن تكون وبالا علي من هم تحت يده. تبين من خلال حديث الشيخ وبكل وضوح أن قادة المشروع، وهو أولهم، ما كانو يدركون أن "من أمِن العقوبة أساءَ الأدب"، وأنه في غياب الأجهزة الرقابية والمحاسبية يتحول السلطان المطلق إلي كارثة تقضي علي الأخضر واليابس.

تبين من خلال حديث الشيخ وبكل وضوح أن قادة المشروع، وهو أولهم، ما كانوا يدركون أبسط قواعد التعامل مع العالم الخارجي، الذي يختلف عنهم توجهاً ومنهجاً، بما تقتضيه قواعد الديبلوماسية والسياسة العالمية. والقائمة تطول وتطول.

أكثرُ عبارةٍ سمعتها من الشيخ خلال شهادته هي: "ما كنا نظن أن …"! التي ما فتئ يعيدها ويكررها كلما جره الحوار إلى قضية اقتضت البداهة أن يكون الاستعداد لها أكبر مما كان بمراحل، لدرجة أن محاوره البارع الأستاذ أحمد منصور استدرك عليه أكثر من مرة بقوله: "إنت تاني ح تقوللي ما كنا نظن؟!"

أمضي الترابي جل وقته في هذه السلسلة يكشف عورات النظام الذي أسسه، أو كان ماضياً في تأسيسهِ حتي عاجلتهُ مفاصلة ١٩٩٩، وينقُضُ من خلالِ شهادتِه بناءاً أفني زهرةَ حياتِهِ في تشييده، وقَدمَ – من حيثُ يدري أَولا يدري – لليساريين ولكل من له موقف مبدئيٌ كاره للحركات الإسلامية في أي دولة من دول العالم أكبرَ وأمضي سلاحٍ يمكن أن يشهروهِ في وجه المنتمين لهذه الحركات في المستقبل القريب أو البعيد.

أكبرُ خذلانٍ للشباب الذين نشأوا على أهازيج الحركة الإسلامية في السودان هو رؤيتهم للشيخ

الترابي مضي إلي رحمةِ مولاه، وخلفَ وراءَهُ تجربَةً عريضةً امتدت منذ استقلالِ السودانِ وحتي يومِنا هذا. تجربةٌ مكتظةٌ بدروس وعبر لا تعد ولا تحصي والكثير الكثير من علامات الاستفهام

الترابي وهو يعترفُ بضعف الإعدادِ والترتيبِ والإدارة، وبضعفِ المراقبةِ والمحاسبةِ، وبضعفِ قادتِهم وشُيوخِهم أمام السلطةِ والمال. وأكبرُ خذلاناً من ذلك هو رؤيتُهم لرُبانِ السفينةِ وهو يحاول التنصل من كل المسؤولية، والإلقاء باللائمة علي كل من هم حوله حتي فيما يتعلق بالقضايا التي اعترف هو نفسه أنها وقعت إبان تواجده هو علي رأس المنظومة، قبل المفاصلة التي وقعت في ١٩٩٩.

من الواجب علي هنا أن أبين وبوضوح لا لبس فيه، علي الرغم مما قد يجرهُ علي هذا التوضيحُ من تبعاتٍ، أن خيبة الأمل الكبيرة بالنسبة لهؤلاء الشباب – وكما هو مذكور أعلاه – هي خيبة أمل في "قادة المشروع" وليس في "المشروع" نفسه. خيبة الأمل تكمن في أن قادة المشروع فشلوا في أن يستشرفوا قبل مرحلة الدولة ما تقضيه هذه المرحلة من استعداد. فشلوا في أن يحاكموا أنفسهم أولاً قبل أن يحاكموا غيرهم.

فشلوا في أن يضعوا الضوابط التي تضمن المراقبة والمحاسبة والضبط والتقويم. فشلوا في أن يدركوا أن الدولة الحديثة تقتضي الشفافية والتعددية الحزبية واستيعاب الآخر وإشاعة الحريات والحقوق الأساسية لكل من ينتمي لتلك الدولة مهما كان لونه أو جنسه أو فكره أو دينه. قادة المشروع علموا الشباب أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أقسم بالذي نفسه بيده أنه حتي ابنته فاطمة رضي الله عنها ستنال جزاءها إن هي سرقت، لكنهم فشلوا في تطبيق هذا المبدأ العظيم وجعله واقعا معاشا بين الناس.

وما أود أن أقوله هنا هو أن فشلهم هذا لا يعني أن المبدأ الذي قرره حديث الرسول الكريم ذهب أدراج الرياح مع غيره من المبادئ علي شاكلته، بل يعني أن تجربة محدودة قد فشلت في التطبيق.

الترابي مضي إلي رحمةِ مولاه، وخلفَ وراءَهُ تجربَةً عريضةً امتدت منذ استقلالِ السودانِ وحتي يومِنا هذا. تجربةٌ مكتظةٌ بدروس وعبر لا تعد ولا تحصي والكثير الكثير من علامات الاستفهام. لكن الأمر الإيجابي الذي يمكنُ استخلاصُه من هذهِ الشهادة، والدرسُ الأكبرُ الذي يجبُ أن يتعلمهُ الإسلاميون وغير الإسلاميين عبرَ العالمِ أجمع، هو أن إدارةَ الدول ليست لعبةً يمكنُ تركُها في أيدي قلةٍ محدودةٍ من الناسِ مهما بلغ علمُهُم وكسبُهُم في العمل العام أو غيره. إدارةُ الدُولِ مسئوليةٌ جسيمةٌ تتطلبُ أولَ ما تتطلب بناءَ الأنظمةِ الرقابيةِ والمحاسبيةِ القادرة أولاً علي مراقبةِ أداءِ الحكامِ ومحاسبتِهم قبل أن تكون قادرةً علي مراقبةِ ومحاسبةِ غيرهم من عامة الناس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.