شعار قسم مدونات

دستور "التأويل الديمقراطي"

blog - dafqer
 
بدأ يشتد عود دستور مملكتنا المغربية؛ هو يتسلق الآن زمن سنته السادسة، لكنه منهك أيضا، منذ خمس سنوات وهو يبحث له عن هوية دون أن يعثر على عنوان.. هل وضع على مقاسات نظام ملكي يكاد يكون برلمانيا أم أنه لباس رئاسي لنظام ملكي دستوري؟
 

في عيد ميلاده الخامس، لا أحد يستطيع أن يجيب جازما؛ كل منا يقرؤه كيفما شاء، قد يحتكم إلى ضميره أو إلى أهوائه، لقناعاته أو مطامحه؛ لا مشكلة في هذا أو ذاك، إنها حالة ديمقراطية وشكل من أشكال التمرين على حرية الرأي والتعبير.
 

أصبحنا نتحدث في المغرب عن التأويل الديمقراطي للدستور، وهذه بدعة، فإما أن يكون الدستور ديمقراطيا أو غير ديمقراطي

كان واضعو الدستور يتوقعون ذلك، ولذلك ألح خطاب تقديمه للاستفتاء في الفاتح من يوليو 2011 على أن يتم تأويله تأويلا ديمقراطيا، لكن عبارة "التأويل الديمقراطي" التي بدت مخرجا من مأزق الغموض وعدم الوضوح، لم تتوقع أن تصبح موضع سخرية، ومؤخرا أعجبني أكبر معارضي الحكومة حين قالها بوضوح "أصبحنا نتحدث في المغرب عن التأويل الديمقراطي للدستور، وهذه بدعة، فإما أن يكون الدستور ديمقراطيا أو غير ديمقراطي. هل سمعتم في أحد البلدان كلاما من قبيل: فلنؤول الدستور ديمقراطيا؟"

شخصيا لم أسمع ذلك يوما، ومن يدري فقد يكون ذلك من استثناءاتنا المغربية، فنحن شعب نحب الاستثناءات في كل شيء؛ وكما اعتبرنا أنفسنا استثناء في إعادة هيكلة حقلنا الديني، وفي تدبيرنا لزمن زوابع ربيع عربي تحول إلى خريف قاس.. ما الذي يمنعنا من أن نكون استثناء أيضا في هذا الغموض ونموذجا فريدا في حروب التأويل؟!
 

لكن هذه الأسطوانة المشروخة لا تطربني؛ أشعر أني أنتمي إلى جيل تعرض للخديعة، عشرون سنة قضيناها في قاعات انتظار الحكومات وتبدل الزعامات والقيادات، نحلم بإصلاح دستوري ينقلنا من مملكة الرعايا إلى دولة المواطنين، لكن طبقتنا السياسية لديها رأي آخر، وكأن لسان حالها يقول إننا نستعجل الأمور، أو أنه ليس في الإمكان أكثر مما كان.
 

وتعود بي الذاكرة في عيد ميلاد دستورنا الجديد إلى أكثر من عشرين سنة مضت، كنت في الواحدة والعشرين من عمري حينها أدرس في السنة الأولى حقوق، في إحدى جلسات البرلمان استفزني الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان، كان ذلك شهر مايو من عام 1994، حين تحدى أحزاب المعارضة بأن تثبت أن الحكومة التي ينتمي إليها غير دستورية، تجاوبت مع التحدي بكتابة مقالة صحفية تحت عنوان "أين سيادة الشعب إذن؟"، ولم أكن أتوقع أنه النص الذي سيغرقني في عوالم الصحافة، وإلى اليوم مازلت أكتب بحثا عن هذه "السيادة الشعبية".
 

مشكلتنا في العالم العربي ليست في الدساتير، بل في القدرة على تطبيقها

ولا أخفي أني كنت من المتحمسين لدستور "الربيع العربي"، رأيت فيه خطوات كبرى نحو الملكية البرلمانية، لكن سنوات الممارسة حملت معها جرعات إحباط أكبر، كل السياسيين يتسابقون لإسداء خدمات لم يطلبها منهم أحد، أن يعيدوا للملكية ما فوضته إراديا للحكومة والبرلمان من صلاحيات، وحين يقال لرئيس الحكومة إنه يتنازل عن اختصاصاته، يرد على الجميع بأنه لن يدخل في صراع مع الملك، بل إنه قال يوما إن ذلك قد يعرضه لغضب والدته !
 

وقبل أشهر قليلة حاورت رئيس مجلس النواب في برنامج تلفزي بإحدى القنوات العمومية، سألته عما إن كان الدستور أكبر من نخبتنا الحزبية، ومن برلمانيينا ووزرائنا؟، الرجل كان صريحا وصادما في الآن نفسه؛ بالنسبة إليه نحن في مرحلة تدريب ويلزمنا كثير من الوقت حتى نستوعب دستورنا الجديد ونشرع في تطبيقه بحذافيره.
 

ولا أعرف كم يلزمني من سنوات انتظار أخرى كي تنتهي فترة التدريب هذه، خصوصا وأن دستورنا يتجاوز عتبة مائة فصل جعلت أحد السياسيين يشبهه بطول روايات "حنة مينة"، لكن المؤكد أن شباب الجيل الذي أنتمي إليه لا يؤمنون بحكاية التدريب هذه، صارت قناعتهم الجديدة غير قابلة للمراجعة.. دستور جديد يحتاج لنخبة سياسية جديدة، ومشكلتنا في العالم العربي ليست في الدساتير، بل في القدرة على تطبيقها، وإلى أن تأتينا هذه القدرة وتلك النخبة الجديدة، نقول لدستورنا: عيد ميلاد سعيد في متاهات تأويلك الديمقراطي.. وحتى غير الديمقراطي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.