شعار قسم مدونات

خصخصة الدين

blogs - masjid

▪️ أعتقد أن مهمتي الرئيسية اليوم هي مداهمة مواقع الظواهر الفكرية المنحرفة التي أنجبتها سطحية المعرفة ودونية التعلم، وهدم قواعد الجهل المسلح بأنواع الأسلحة التي صنعها الوهم المقدس، ومكافحة الحشرات المؤذية التي تتسبب بنشر تلك الأوبئة الفكرية على جدران العقول فتسبب أمراضا مزمنة وشللا عقليا شنيعا.
 

▪️ هي مهمة علمية صعبة للغاية لكني سأقتحم عليها مواقعها وأحاول الولوج إلى خبايا تلك الخلايا وأروقتها الداخلية لأكتشف الـ(DNA) الذي يفرز هذه الانحرفات ويتركها تتغول.
 

▪️ أقول: تتحول عددٌ من مدارس العلم الشرعي ومراكزه هنا وهناك للأسف إلى مجرد مصانع لإنتاج الأصنام البشرية وتأليه أقوالها وآرائها المبنية على الفهم الخاص، وتوليد الأتباع الذين لا عقل لهم سوى التقليد، وتلقيهم آراء الأستاذ بالقبول المطلق دون إخضاعه للمناقشة والتحليل في ضوء فهم النص والتدريب على المناقشة الذكية، فقد عشنا تلك القناعات السطحية يوما فلما بحثناها وناقشناها اكتشفنا أن هناك آراء أخرى ومدارس لها وجاهتها من الحجة والدليل.
 

فقه السلوك من يصنع الربانية ويستدعيها ويحرر الدعوة إلى الله من الدعوة إلى أشخاصنا

▪️ عندما يتعطل فهم ذلك الأستاذ بحقيقة وظيفته وطبيعة الدور الذي يمارسه يتحول إلى مدرسة فرعونية من نوع آخر قاسمها المشترك "ما أريكم إلا ما أرى"، ولسان حاله "رأيي صواب لا يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ لا يحتمل الصواب، رفعت الأقلام وجفت الصحف".
 

▪️ العلم عبارة عن وسيلة تختفي وراءها غايات عملاقة، وحين يجهل الأستاذ تلك الغايات الضخمة يعمد إلى جعل العلم بذاته غاية هو أستاذها، ويصبح عقله مسكونا بكرسي التفرد، والجلوس للدرس والفتوى، وهنا تتغول هذه الظاهرة لتنجب ورما سرطانيا اسمه "تضخم الذات"، حب الشهرة والظهور، التشنيع بالمخالف، إلقاء التهم بالمجان، وتصدير كميات الفتاوى الشخصية، ودعوى احتكار النسخة الأصلية من التدين.
 

▪️ لعل من أسباب ذلك التغول النفسي غياب فقه السلوك والورع عن تلك المدارس، فهو من يصنع الربانية ويستدعيها "بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون". ويحرر الدعوة إلى الله من الدعوة إلى أشخاصنا. فبجوار دراسة العقيدة نحتاج إلى دراسة فن الأخلاق. وبجانب دراسة الفقه واختلاف جزئياته نحتاج إلى دراسة فقه السلوك؛ لتتمهد تلك الأجزاء المعوجة، والنتوءات البارزة التي ولدت نتيجة الانبهار بسرد الأقوال المتعددة، وحفظ المتون العلمية المختلفة، والعيش في تلك المنطقة المليئة بالمعادلات وعلوم الآلة المجردة التي تشكل منطقة شديدة لجذب القسوة وطرد اللين والورع.
 

▪️ الخلاف لا بد أن يدور بين خطأ وصواب وليس بين حق وحقيقة على طريقة مدرسة المعصومين الجدد في القضايا التي تتسع فيها الآراء. ما يتم ممارسته تجاه تلك الأخطاء يعد نتاجا لتلك الأدوات التي تستخدمها تلك المدارس ومختبراتها، وكل مدرسة تستخدم نظام "الخصخصة" الاقتصادي لتحتكر من خلاله الدين وتنص على أنها تملك النسخة الأصلية منه، والفهم الأوحد الذي هو عين النص. ولعلها نفس المدرسة التي شكا منها ابن سينا حين قال "بُلينا بقومٍ يظنون أنَّ الله لم يهدِ سواهم!".
 

▪️ وهذا هو الذي صدَّر كميات "القسوة" في بعض الفتاوى اليوم حتى فاقت بكثير كميات "الرفق" المطالبين به شرعا، فتحولت مهمة تلك المدارس إلى القضاء على المرضى وليس علاج المرض.
 

آمل أن يتجه القائمون على مدارس العلم الشرعي إلى مراجعات دقيقة، وإلا فإن النتائج التي تنجبها أحداث اليوم كفيلة بانقراضها

▪️ الكثير من تلك المراكز والمدارس العلمية لا تملك صورة ذهنية بانورامية عالية الدقة حول مقاصد الشريعة الإسلامية، ولذا فإن الصورة الضبابية التي تنظر من خلالها صنعت أحوال الطقس المتردي على مناطق العقول ومواقع الأفكار والتصورات. وقد أشار البروفسيور العبقري أحمد بن تيمية إلى نتيجة حتمية يحكم من خلالها المرء على عقله ولسانه بالسجن المؤبد إذ يصف نتائج ما يحدث اليوم ويصوره بقلم من الخبرة والممارسة الذكية الواعية بأن "العقول إذا اتسعت واتسعت تصوراتها اتسعت عباراتها، وإذا ضاقت العقول وتصوراتها بقي صاحبها كأنه محبوس العقل واللسان" (الرد على المنطقيين ص 166).
 

▪️ من جهة أخرى يكشف ابن بدران الحنبلي بممارسته الطويلة نتائج هذه الظاهرة فيعبر عن قناعاته النهائية بأنه لا يركن لخريجي هذه المدرسة القابعة خلف أسوار الفهم المتصلب، وأن نتائجها في الغالب غير مرضية فيقول "كم ممن قرأ فنون العربية والعلوم التي تهيئ للاجتهاد ثم تراه جامدا خامل الفكر لا يعلم إلا ما يلقى إليه، فإذا خاطبته وجدت ذهنه متحجرا، تكلمه شرقا فيكلمك غربا.. فمثل هذا لا يعول عليه ولا يركن" (المدخل 1/373).
 

▪️ آمل أن يتجه القائمون على هذه المدارس إلى مراجعات دقيقة وإلا فإن النتائج التي تنجبها أحداث اليوم كفيلة بانقراضها.
 

▪️ إنني أراهن على الوعي المتقدم على كل جبهات العقل في مختلف المكونات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.