شعار قسم مدونات

نبوءات سياسية خطرة

blogs - church
تلعب النبوءات الدينية دوراً خطيراً في المشهد السياسي الدولي الراهن، إذ تعد النبوءة مكوناً مهماً في خطاب التعبئة للصراع السياسي والعسكري في العقود الأخيرة تحديداً. وفي حالات أخرى تلعب النبوءة دوراً في صناعة السياسات نفسها،  فقد يضع صانع القرار الواقع تحت التاثير القوي للنبوءة سياسات جماعته أو سياسات بلده في موضع العربة من الحصان، بحيث تصبح النبوءة هي التي تقود عربة السياسة، كما حدث – بدرجة ما –  في عهد الرئيس الأمريكي بوش الابن، الذي كان مهووساً بنبوءة معركة هرمجدون، وعودة المسيح الرب.
 

لعل من سوء حظنا نحن العرب أن تكون جزيرتنا العربية، هي ميدان هذه النبوءات ومن ثم ميدان صراعها، وخصوصاً فلسطين التي تعد بؤرة هذه النبوءات

وقاده هذا الهوس – على الأرجح – إلى مغامرة غزو العراق وتحطيم دولته والتسبب في كارثة إنسانية ما زالت ارتداداتها السلبية سارية حتى الآن. وكما يحدث أيضاً في إيران اليوم، وحديث قادتها الدائم عن اقتراب موعد ظهور المنتظر ذي المواصفات الاستثنائية، وهي العقيدة التي تضافرت مع يقضة الطموحات الإيرانية في الجزيرة والخليج، ودفعت للتفكير في الاستحواذ على مكة نفسها، في ما وصف بمشورع "أم القرى"، الرامي إلى نقل مركز القداسة من مكة إلى قم، ربما في عملية شبيهة بنقل مركز القداسة المسيحية من فلسطين إلى روما.
 

ولعل من سوء حظنا نحن العرب أن تكون جزيرتنا العربية، هي ميدان هذه النبوءات ومن ثم ميدان صراعها، وخصوصاً فلسطين التي تعد بؤرة هذه النبوءات والصراع. كما أن من سوء حظنا أيضاً أن تكون هذه النبوءات ذات الطابع الملحمي محل إجماع بين فئات كبرى مؤثرة في الديانات الإبراهيمة الثلاث: الإسلام، المسيحية، اليهودية. فالأتباع التقليديون لهذه الديانات يؤمنون بعقيدة المخلص المنتظر الذي سيظهر في ظروف ملحمية تختتم الحياة على كوكب الأرض، مع فوارق في التفاصيل.
 

وفي حين يبدو المسلمون السنة أقل احتفاء بعقيدة المخلص المنتظر – ربما لأن هذه العقيدة لا تشكل أصلاً من أصول الدين لديهم كما هو الحال عند الشيعة الإمامية واليهود والمسيحيين البروتستنانت – إلا أن قطاعا واسعا منهم مهتم بأمرها وبأخبار الفتن والملاحم التي ستقع في نهاية الزمان.

بل تعد هذه العقيدة مكوناً أساسياً في خطاب جماعات العنف السنية المتطرفة. وهكذا يقدم الجميع خطاباً طوباوياً يعد فيه الأتباع بنهاية سعيدة تنتصر فيها قوى الخير (نحن) على قوى الشر (هم)، نصراً نهائياً وحاسماً، يذكر بنهاية الأفلام الهندية التقليدية. قد يبدو الأمر بالنسبة لكثير من المثقفين ذوي النزعة العقلانية المفرطة مثيراً للسخرية، إلا أن السخرية ليست حلاً بالطبع أمام ظاهرة واسعة الانتشار والتأثير كهذه. وطريق الباحث الجاد غير طريق العابر للنزهة، فاللائق به أن يتفحصها كما يتفحص المخبر الإشاعة، لعل وراءها خبراً يقيناً.
 

لا شك أن الإيمان بفكرة النبوءة يقتضي إيماناُ قبلياً بمصدرها الديني، ومن ثم فإن النقاش حول أصالة النبوءة من عدمها لا بد أن يجر إلى نقاش حول أصالة الدين نفسه. ولأن الخطاب هنا مع قارئ افتراضي مؤمن بالدين كما تقدمه الديانات الثلاث السابقة، فإن من المناسب الحديث عن عقيدة الكاتب في هذا الصدد لما لها من وجاهة في تتميم هذا المقال.

لقد كان هناك جزء من الحقيقة في كل روايات المخلص المنتظر عند أتباع الديانات الثلاث، تحيطة كومة من الأوهام المصنوعة

فقد آمن كاتب هذه السطور مبدئياُ بمنطقية حضور الجانب الإسراري في الخطاب الديني. ليس لأن الخطاب سيبدو مكافئاً في التركيب للحياة نفسها التي يستهدفها الدين، أو لتأثير النبوءة القوي على متلقي الخطاب المؤمن ، فحسب، وإنما أيضاً لأن سردية الدين الكبرى ستبدو – بدون مكون النبوءة – مثل اللوحة الفنية الناقصة التي تحتاج إلى اكتمال. فالسرديات الكبرى لا بد أن تتضمن عناصر التشويق والتأثير كلها، فما بالك بخطاب يزعم أن مصدره العليم علماً مطلقاً؟!.
 

وعلى ضوء هذه القناعة ظل الكاتب يتعامل بحذر مع النبوءات الدينية، فلا هو يردها جملة ولا هو يقبلها جملة، بل يقف معها موقف الباحث الفاحص قدر الإمكان، يراوده شعور عميق بوجود حقيقة ما خلف كل أسطورة!.

وحين مضى في البحث وجد باحثين كانوا قد قطعوا شوطاً في تحقيق بعض هذه النبوءات، وخصوصاً نبوءة المخلص المنتظر، ثم وجد ما كان يتوقعه. لقد كان هناك جزء من الحقيقة في كل روايات المخلص المنتظر عند أتباع الديانات الثلاث، تحيطة كومة من الأوهام المصنوعة. أما جزء الحقيقة فهو ذلك الذي يشير إلى وجود شخصية حقيقية هي المقصودة بكل نصوص النبوءة الأصلية عن المخلص المنتظر، وأما جزء الوهم فهو ذلك الكم الكبير من النصوص الزائفة التي أحاطت بهذه الحقيقة وصرفتها بعيداً عن وظيفتها الأصلية.
 

لقد كانت التوراة – تحديداً سفر التثنية – هي المنبع الأول لنبوءة المخلص المسيح المهدي المنتظر، حيث جاء على لسان الرب مخطاباً موسى في الإصحاح 18 ما معناه إن الرب سيبعث لبني إسرائيل نبياً مثل موسى من بني عمومتهم، (بني إسماعيل). سيكون هو حجر الزاوية في البناء، أي خاتم الأنبياء. ومن لحظتها واليهود ينتظرون هذا النبي الذي يشبه موسى في سيرته.

المسيحية تعرضت لاختراقين خطيرين، من قبل اليهود واليهودية، الأول على يد شاول الذي يعد المؤسس الحقيقي للمسيحية الكنسية

إلا أن تقلب الأحوال ببني إسرائيل وضياع التوراة وإخفاء حقائقها عن جمهور اليهود، قد دفع حاخاماتهم في وقت لاحق إلى تزوير النبوءة في محاولة منهم لاستبقاء شرف النبوة الخاتمة بين ظهرانيهم. ولأن موسى في حس اليهود كان قائد جماعة ومؤسس مجتمع جديد، فقد جعلوا من شروط المسيح الشبيه أن يكون زعيماً سياسياً لبني إسرائيل، وهكذا اضطروا لإضافة شرط جديد على النبوءة يقول إن المسيح المنتظر سيكون من نسل داود، لأن داود هو المؤسس الحقيقي لدولة إسرائيل في نظرهم.
 

وأصبحت عقيدة المخلص المنتظر هي الهم الأكبر لبني إسرائيل في تاريخهم كله، إلى أن جاء المسيح عيسى بن مريم، وصارح الأجيال الأخيرة بالحقيقة المرة، حقيقة أن المسيح المنتظر ليس سوى النبي العربي محمد، وهو التصريح الذي كاد يودي به إلى الموت صلباً.
 

وكان هذا التصحيح الذي قدمه المسيح عيسى كافياً لإغلاق ملف المخلص المنتظر، لولا أن المسيحية تعرضت لاختراقين خطيرين، من قبل اليهود واليهودية، الأول على يد شاول الذي يعد المؤسس الحقيقي للمسيحية الكنسية، والآخر على يد البروتستانتية التي أعادت المسيحية إلى الحضن اليهودي. وبسبب هذين الاختراقين بقيت مقولة المسيح المنتظر الذي سيظهر في آخر الزمان ليحقق العدل كله والخير كله، ومن المسيحية انتقلت إلى المذهب الشيعي باسم المهدي المنتظر، عبر مفكري المذهب الأوائل، الذين كان معظمهم يمت للمسيحية بصلة!.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.