شعار قسم مدونات

شمعة في الظلام

blog قراءة

يؤمن البعض أن القراءة بوصفها نشاطا إنسانيا تنزع لتكون قرينة الوحدة، وحين نتخيل قارئا ما نسعى أن نكونه، نتخيله وحده بين أرفف الكتب، أو متكئا على جذع شجرة في الوادي، أو حتى في السجن! وبحسب دانيال بناك "يقرأ الإنسان لأنه وحيد".

 

في الوحدة اكتُشفت أحلى النصوص، وتُليت أعظم القصائد بذهول، وهناك في أقصى الأماكن واللحظات المنفلتة من إطار المكان والزمان كانت معجزة القراءة عزاء كافيا بعيدا عن الضجيج، وحتى في أشد الأماكن صخبا كان يمكن اختراع وحدة ما من أجل القراءة، ونحن قد نرى شخصا يقرأ في مقهى بانهماك، بينما يدور على طاولة بجانبه نقاش صاخب يُسمع من الخارج، فيما يظل هو غير عابئ به.

يقرأ الإنسان لأنه وحيد، نعم، وإن تغاضينا عن بعض الأمتار القصيرة في سباقنا القرائي، في المدرسة، أو صغارا قبل النوم حين كان يُقرأ لنا، فإننا نقطع هذا السباق الطويل وحدنا بآمال الوصول إلى خط النهاية، ولا نهاية.

كل صيف في صغري، اعتدت على رؤية شيخ في قريتنا البعيدة يوميا بعد العصر وهو متكئ أمام بيته فوق خزان الماء يقرأ القرآن. كان منظره جميلا ووادعا يبعث في الروح الأمان، وبينما كان الناس يروحون ويغدون، كان يظل لساعات يقرأ فيما يبدو خليّا من كل هم وشغل.
 

في الوحدة اكتُشفت أحلى النصوص وتُليت أعظم القصائد بذهول، وهناك في أقصى الأماكن واللحظات المنفلتة من إطار المكان والزمان كانت معجزة القراءة عزاء كافيا بعيدا عن الضجيج

كثيرا ما كانت تراودني رغبة في الاقتراب والسلام عليه وكان يصدني عن ذلك خوف الصغار الاعتيادي من الكبار، والحكم الشرعي بكراهية السلام على قارئ القرآن لئلا يُقطع استرساله، ولتُضمن العزلة الكافية التي تفتح أبواب التأمل في النص، وهو ما قد يتعذر تحقيقه في وجود الصوارف، حتى ولو كانت بسيطة كرد السلام مثلا.

لاحقا، بلغني خبر وفاة ذاك الرجل الطيب وتذكرت أمانيّ المؤجلة في أن أتعرف عليه، ناسيا أنني بينما كنت أكبر باطمئنان، كانت شيخوخته تقتات منه باطراد، حتى قضى -رحمه الله-، ولا أزال أتذكره دائما كمثال تطبيقي لمفارقة الوحدة والعزلة في القراءة، من حيث أنها انكفاء بطريقة ما للداخل، وانفتاح في ذات الوقت على أسرار الحياة والوجود.

 

وكثيرا ما أعود لتأمل تجربة الراحل علي عزت بيغوفيتش، الرجل الذي اختزل حيوات في حياة، نضالا وسياسة وفكرا وكتابة، لكنني أحببت معرفته بوصفه إنسانا في أبسط حالاته الإنسانية.

 كما في كتابه "هروبي إلى الحرية" حيث يسجل كشاعر وأحيانا كفيلسوف مشاعره في السجن.. كيف يرفعه الرجاء ويهوي به اليأس، ويعلو بالأمل وتخسف به الخيبات، في شذرات تعكس ثقافة هائلة ومعرفة لا شك في أنه نهلها من فرات وحدته الطويلة في ظلمة السجن.

وهو الذي يقول "السجن يقدم معرفة، يمكن أن نقول إنها مؤلمة للغاية"، مقنعا نفسه بطريقة مرضية بأن السجن قد يوفر في ذات الوقت فرصة للفكاك من التفاصيل اليومية من أجل القراءة فحسب.
 

من الجميل أن نقرأ ونختبر معجزات النصوص ونسافر عبر العصور، نشم الروائح المعتقة ونسمع أصوات المعارك القديمة ونكتشف دهشة الأشياء من جديد في يفاعتها الأولى

وهو أمر لا يستطيعه الأحرار بالخارج في مفارقة أخرى من مفارقات القراءة والعزلة، كما يذكر في إحدى شذراته قائلا: "لكي يقرأ المرء كثيرا يجب عليه إما أن يكون غنيا جدا، أو فقيرا جدا كما يقول أحد السينمائيين المشهورين، وسأضيف.. أو في السجن كما هو الحال معي".

 

لقد كان بيغوفيتش في لحظات توحده القرائية أكثر حرية في سجنه من السجّان، ومن أي شخص آخر بالخارج، وهو ليس كلاما يُقال بابتذال، لأن معاناة السجن أمر حقيقي، غير أنه إذا ما بحثنا عن سبب للعزاء وحاولنا أن نخرج بمعنى ما في عبث المعاناة فسيكون في القراءة.

 

لكن حتى الآن ما الذي قرأناه؟ وما تلك الكتب التي لا تزال منثورة في كل مكان؟ والتهميشات التي لم نعد إليها؟ وكم هي الكتب التي علينا إعادة قراءتها؟ وأين هي الوحدة التي تمنحنا لحظات قراءة خالدة بعيدا عن الضجيج اليومي وواجبات الحياة؟

إنها الأسئلة التي علينا أن نحتمل عبأها، في حين أننا لا نملك الوقت الكافي سوى لإتمام أنصاف أشياء، فأمام متطلبات لا تنتهي تبرز القراءة كوقت مختلس من العيش، إن زيد فيها نقص من العيش ما نقص.

ورغم هذا نقرأ، لأنه من الجميل أن نقرأ ونختبر معجزات النصوص، ونسافر عبر العصور، نشم الروائح المعتقة ونسمع أصوات المعارك القديمة، ونكتشف دهشة الأشياء من جديد في يفاعتها الأولى. إننا نقرأ لأننا منذورون للفناء، ويوما ما سنرحل بعد أن عشنا عمرا خديجا جدا قياسا بعمر هذا الكون مستحيل الاتساع والأبعاد.

وحياة واحدة لا تكفي لاختبار الحياة الكبرى، بينما يمكننا ذلك في القراءة كما لا يمكن في أي نشاط إنساني آخر، ولأنه في أقصى زوايا وحدتنا وعزلتنا ستكون القراءة بالنسبة لنا كضوء ترسله شمعة في الظلام، وحينها يمكن أن نصدق مونتسيكيو إذ يقول: "لم يصبني حزن إلا وانتشلتني منه القراءة".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.