شعار قسم مدونات

إشكاليات وثغرات في تعريف الإرهاب!

bogs - gaza

ذاع مصطلح "الإرهاب" في العالم خلال العقود الأخيرة، وقامت أميركا مع حلفائها بمهاجمة واحتلال العديد من البلدان تحت عنوان مكافحة الإرهاب. غير أن اللافت في الأمر هو عدم وجود تعريف موضوعي مجمل ومانع لهذا المصطلح حتى اللحظة، وقد تجنبت الاتفاقيات الدولية والقواميس الأجنبية وضع تعريف محدد للمقصود بالإرهاب والأعمال الإرهابية، فنجد في قاموس أكسفورد أكثر من تعريف للإرهاب، ونجد لكل مؤسسة وجهاز سيادي في أميركا تعريفا خاصا. 
 

الاختلاف هنا ليس اختلافًا لغويًا بقدر ما هو اختلاف قيمي وحضاري، لأن تعريف الإرهاب لغة مفهوم ومعلوم، فهو يعني الترهيب أو التخويف وإثارة الفزع، وهو ضمن هذا المعنى المباشر قد يكون مقبولا إذا ما كان المقصود به إخافة الأعداء وإثارة الرعب في نفوسهم دون تجاوز الأخلاقيات والقوانين والشرائع.
 

رغم قيام الصهاينة بقتل وتشريد وتعذيب ملايين الفلسطينيين بأبشع الأساليب من منطلقات  عنصرية وعقدية، فإن الغرب لم يصف فعلهم بالإرهاب

بيد أن مفهوم الإرهاب يأخذ في عصرنا اتجاهًا واحدًا يتعلق بكل ما من شأنه إلحاق الأذى والضرر بالأبرياء، مع تعدد المفاهيم والشروط في هذا الصدد واختلافها من مكان إلى آخر، وهو مفهوم قاصر لإشكالاته اللغوية والواقعية.

فهو في النظريات شيء وعند إسقاطه على الواقع شيء آخر، خصوصًا حين تستخدمه حكومات الغرب وأميركا مبررًا لإرهابها بحق الأبرياء، كما فعلت في العراق وأفغانستان، وفي فلسطين حين دعمت العدوان الصهيوني بالسلاح والمال. ودعم العدوان وتمويله حسب أحد التعريفات يعتبر إرهابًا.

تعريف "الإرهاب" يفضح من ناحية أخرى ازدواجية المعايير الغربية التي لم تلصق الإرهاب مؤخرًا إلا بالمسلمين، وإن ارتكب أصحاب الديانات الأخرى الفظائع فهم مجرد مختلِّين، وإن أكلوا لحوم البشر كما فعل "أوستن حاروف" قبل فترة قصيرة.

ورغم قيام الصهاينة بقتل وتشريد وتعذيب ملايين الفلسطينيين بأبشع الأساليب من منطلقات عنصرية وعقدية فإن الغرب لم يصف فعلهم بالإرهاب، فهو يستثني بعض الدول من هذه الأوصاف، مع أن جرائم القتل الجماعي للأبرياء بواسطة الطائرات والدبابات وغيرها من الأدوات الغاشمة هي أعظم "إرهاب"، أم أن تعريف مصطلح "الأبرياء" محط اختلاف عندهم أيضًا؟

تقارُب مفهوم الإرهاب لغويًا مع مفهوم التخويف أوجد مساحة فضفاضة أعطت فرصة لوصف كل ما هو مخيف بالإرهاب، حتى وإن كان ذلك مشروعًا كمقاومة الاحتلال التي تندرج تحت مفهوم الدفاع عن النفس. وجعل هذا التقاربُ التأويلَ في هذا المجال واسعًا، وترك الباب مفتوحًا لاستغلال المصطلح وإخضاعه لميول ورغبات أشخاص وجماعات ودول، مما سبب خلطًا كبيرًا والتباسًا وفق سياسة الاجتزاء والتدليس والتلاعب الفلسفي في المنطق والمفاهيم.

إن اختيار الغرب لهذا المصطلح الفضفاض وفرضه على العالم من أجل وصف أخطر الظواهر في القرن العشرين وفق خلطٍ متعمدٍ ومقصود، ينمّ عن أزمة قيمية ومبادئية عميقة تعاني منها هذه الحضارة المفترضة، فهو من حيث المفهوم اللغوي شيء، ومن حيث السياق والتعامل الغربي معه شيء آخر يتداخل مع الأول أحيانًا ويتناقض معه مرارًا.

وكان بإمكان الغرب وأميركا استخدام مصطلح "رفع الظلم"، فهو أوضح وأشمل ولا يحتمل الالتباس مثل مصطلح "الحرب على الإرهاب"، إلا أن مثل هذا المصطلح يعرّيهم أمام التاريخ والحاضر، فجل أفعالهم في بلداننا اقترنت بالظلم والجور، وعدم استخدامهم لمصطلحات زاخرة قيميًا دليلٌ آخر على مدى فقر حصيلتهم الحضارية وزيف إنسانيتهم، وما "الحرب على الإرهاب" إلا ظلمٌ وإرهاب جلي حكت تفاصيله صور الضحايا الأبرياء في فلسطين والعراق وأفغانستان.

إن الالتباس الحاصل في تعريف وإسقاط مفهوم الإرهاب هو حالة جلّ المفاهيم التي جاءت بها ما تسمى بالحضارة الغربية التي ما زالت التناقضات تلازمها منذ نشأتها إلى اليوم.

فالليبرالية يختلف تعريفها باختلاف الأزمان والأماكن واللغات، وكذلك الديمقراطية قد تعني في أميركا تداول السلطة عبر صناديق الانتخابات، وقد تكون في المشرق تداولها عبر الدبابات، كما جرى حين دعم الغرب بقيادة أميركا علنًا الانقلاب على نتائج الانتخابات في تركيا عدة مرات، ودعموا الانقلاب على "مصدق" في إيران، ودعموا الانقلاب في الكونغو، وفي جنوب فيتنام وغيرها من المناطق.
 

وصف الإرهاب أصبح مقرونًا بمدى ارتباط اسم فاعله بالإسلام، حيث حدثت مؤخرًا العديد من الجرائم البشعة على يد غير المسلمين ولم يوصف أي منها بالإرهاب

ولم يتوقفوا عن ذلك، بل أعطوا الانقلاب تسميات أخرى لتجميل الجريمة مثل الثورة أو الانتفاضة أو الإرادة الشعبية كعادتهم في التضليل والخداع. ومن ذلك أن السفارة الأميركية في تركيا أسمت محاولة الانقلاب الفاشلة منتصف يوليو/تموز 2016 في ساعتها الأولى انتفاضة تركية، ثم سرعان ما تراجعت عن ذلك عندما لاحت ملامح فشلها.

إجمالا يمكن القول بأنه إذا كان المقصود بالإرهاب الذي يكافحونه هو قتل الأبرياء وتخويفهم وهدم منازلهم وسرقة أراضيهم، واستهداف التجمعات السكنية بأسلحة الدمار الشامل، فينبغي مكافحة "إسرائيل" لجرائمها، وأميركا ومن معها لما اقترفوه في هيروشيما وناغازاكي وغيرهما، وبذلك يكون الذين يرفعون شعار مكافحة الإرهاب هم الإرهابيون، في تناقض من أبرز تناقضات واقعنا المعاصر.

وإن كان المقصود بالإرهاب الغدر واغتيال الأبرياء، فلماذا تم استثناء قاتل إمام المسجد في نيويورك مؤخرًا من هذا الوصف؟ أم أن ترويج وإلصاق وصف "الإرهاب" أصبح مقرونًا بمدى ارتباط اسم فاعله بالإسلام، حيث حدثت مؤخرًا العديد من الجرائم البشعة على يد غير المسلمين ولم يوصف أي منها بالإرهاب، وهذا مثالٌ آخر يدل على حجم الفقر الحضاري للغرب الذي شيد البنيان وهدم روح وقيم الإنسان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.