شعار قسم مدونات

إعادة إحياء السلفية

Blogالدعوة السلفية

بعد موجة المنتديات في السنوات الماضية؛ قامَتْ مواقع التواصل -خاصةً فيسبوك وتويتر وآسك- بكسر الحاجز الكبير الذي كان يفصل عامة الناس عن علوم المتخصصين، هذه الظاهرة يُسمِّيها الشيخ عمرو بسيوني ظاهرة "تسييل المعرفة"، غير أنَّ هذا الفصل لم يصاحبه نضجٌ في أفهام الناس، فكان أضرَّ من الطعام للرضيع.

ومع المساحات الشاسعة والتنقلات السريعة التي توفِّرُها مواقع التواصل الاجتماعي لمستخدميها، يَسَّرَ لنا ذلك الاحتكاكَ بشريحةٍ سلفيةٍ عالية المستوى ومبسوطة الأيدي، لم يكن لها انتشارٌ واسعٌ بيننا قبل ذلك؛ هذه الشريحة جمعتْ بين بساطة الداعي ورسوخ الفقيه.

الناس غيرمؤهلين للتأثر بهؤلاء العلماء، والعلاقة متبادلة؛ فأنت تفهم منّي وتنتفع بي على قدر ما عندك؛لا على قدر ما عندي فحسب، وهذا عيب المتلقين لا عيب العلماء

والأسماء كثيرة يصعب عليَّ حصرها في هذا المقال؛ لأننا نتكلم عن "حالة" لا عن "أشخاص"، ومنهم على سبيل المثال: الشيخ أحمد سالم، والشيخ عمرو بسيوني، والشيخ كمال المرزوقي، والشيخ البشير عصام المراكشي، والشيخ خالد بهاء الدين، والشيخ محمد سالم بحيري، والشيخ محمد عبد الواحد، وبدرجة أقل من الاندماج في العوام المشايخ: إبراهيم السكران، وسلطان العميري، والشريف حاتم العوني، وعبد الله العجيري، وغيرهم مما يضيق لذكرهم هذا المقام.

هذه السلفية التي تتماثل أُصولُها وأصولَ السلفية الأُولى؛ ليستْ جديدةً بكل هذا الإطلاق، الشيء الجديد فيها اليوم أنَّ أصحابها عَلِموا أنَّ الفقيه الفعَّال هو الفقيه الذي يتبحَّر في جميع المعارف ويغترف منها، ويكون ظمؤُه للعلم رأسَ مالِه، وأنَّ هذا العصر، ومكوناته، وطبيعة الناس فيه؛ لا تسمح لفقيهٍ تقليديٍّ أنْ يتصدر المشهد حتى وإنْ قُلنا أنَّ المقلِّدِين تبرأ ذممهم بتقليده؛ فهذا موضوعٌ آخر، مفهوم لخَّصه الشيخ أحمد في إجابة واحدة: مَنْ توقَّف عن التعلُّم؛ أنفق من رأس ماله حتى أهلكه، ثم قال بغير علمٍ؛ فأضلَّ الناس.

وقد جمع هؤلاء العلماء -بتجانسٍ عجيبٍ- إتقانَ علوم الشريعة واستقراء فروعها بإتقان كثير من علوم هذا العصر، فصارتْ كثيرٌ من تصوراتهم للواقع اليوم غاية في الدقة والموضوعية، حتى صار بعضهم "علَّامةً" بكل ما للكلمة من معنى "وهذا حُكْمٌ موضوعيٌّ وليس حُكْمًا قيميًّا كما يحبُّ أنْ يُعبِّرَ الشيخ عمرو نفسه عن مثل هذه الأحكام.

حسنا؛ من الوجاهة في السؤال أن نقول: لماذا لا يلقى هؤلاء من ذياع الصيت والشُّهرة ما يعكس عنهم هذا العلم الغزير؟

والجواب بطبيعة الحال أنَّه ليس من شروط غزارة العلم ذياع الصيت، هذا إلى جانب آخر مهمٍّ وجليٍّ هو: زُهدهم في الأتباع؛ فهم لا يُربّون "ألتراسا" كما يقولون.

لكن الجواب الأدق على هذا السؤال جرى على لسان الشيخ أحمد سالم نفسه بقوله: السبب أن الناس غير مؤهلين للتأثر بهؤلاء؛ فالعلاقة متبادلة؛ فأنت تفهم منّي وتنتفع بي على قدر ما عندك؛ لا على قدر ما عندي فحسب، وهذا عيب المتلقين لا عيب العلماء.

وقد نصَّ الشيخ عمرو في إجابةٍ أُخرى أن هذه الفجوة تُسَدُّ غالبًا بمن يعرف بالداعية؛ الذي هو أقرب ما يكون لمصطلح القاصِّ في الكتابات التُّراثية، وهو شخصٌ واعظٌ عنده حَدٌّ أدنى من المعرفة الدينية؛ ولكنه لم يبلغ الأهلية المعتبرة في أي علمٍ.

ليس من شروط غزارة العلم ذياع الصيت،هذا إلى جانب آخر مهمٍّ وجليٍّ هو: زُهد أولئك العلماء في الأتباع؛ فهم لا يُربّون "ألتراسا" كما يقولون

فوظيفة الدُّعاة هي تسييل المعرفة المُتقَنة إلى العوام في صورة تخاطب الوجدان، وفي صورة هيكلٍ إجرائيٍّ قابل للتطبيق اليومي، وخطاب الدُّعاة أعظم انتشارًا وتأثيرًا، وكذا منزلتهم الاجتماعية الشَّعْبَوِيَّة؛ فهي أعظم -في نفوس العامة- من العلماء.

ولعل واحدةً من أكثر المسائل التي يثيرها الناس مع هذه الشريحة هي مسألة النمص، وإلَّا فالمسائل المشابهة كثيرةٌ؛ غيرَ أنَّ الكمَّ الهائل الذي استحوذتْ عليه هذه المسألة وحدها من الجهد والرد والوقت والبيان؛ تُبَيُّن أنَّ الخلل عندنا عميقٌ جدًّا، وأنَّ أحسن الناس حالًا بعد معرفتهم أنَّ جمهور أهل العلم يُجيزون النمص بضوابطه، مع ما يتراءى له من وضوحٍ في النص باللعن الصريح: مَنْ يعش في داومةٍ تضربه أمواجها بين الاعتراف بجهله من جهةٍ، وبين أفكاره التي تربَّى عليها حتى تعذَّر عليه مجرد "محاولة" تغييرها؛ وإلَّا فمن الناس مَنْ هم أسوَأُ حالًا من هذه الحال.

فمسألة النمص وحدها -وعلى صغرها- قد أوضحتْ أنَّ فينا خللًا كبيرًا في الفهم يستوجب الإصلاح الطارئ، وستدرك -عندئذٍ- حجم الفجوة بيننا وبين السلفية الحقيقية، وستدرك تمامًا المقدار العظيم من الجهد الذي يبذله هؤلاء في الانتصار لأقوال وطرق ومفاهيم كانتْ هي أقوال وطرق ومفاهيم السلف أساسًا؛ لكنها انغمرتْ في الكتب، وقصرتْ عنها جهود البشر حتى سخَّر الله أمثال هؤلاء لتجديد فهم التُّراث بالمعنى الحقيقي لا الحَدَاثي، وكل ذلك يدل على حجم النقلة النوعية التي يُحدثها هذا الجيل في فهم التُّراث والتعامل معه كما يصف الشيخ أحمد نفسه هذه الحال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.