شعار قسم مدونات

علكة برائحة الدم

blo - gum

"أطفال الشوارع"، لا أعلم بالتحديد من هو أول شخص ابتدع هذه التسمية المقيتة وأطلقها كعمود من نار فأصاب كل هذه الأعواد الغضة ؛ لكنني اليوم سأضع عواطفي جانبا لأخبره بأنه كان محقا وصائبا لدرجة الألم .
 

أنا على يقين تام بأنه وبعد فترة وجيزة من مكوث الإنسان في بقعة ما ، سيصطبغ بلونها ويتعشق برائحتها في حدث غريب عابر لن يعبر أبدا .
 

الشوارع ؛ شوارع الموت ، وأرصفة البرد القارص ، دنيا الغياب وعوالم الذهاب بلا عودة ، ستعطيك كل التعب والقسوة ومئات من قوانين الغاب البغيضة ، كل ذلك في محاولة بديهية منها لاستيعابك ورميك في معترك شبه الحياة المزعومة تلك .
 

لطالما رأينا الشوارع في ملامح الغرباء من المارة ، في خطوات العجالة لكل أقدام الخوف تلك ، في كل دروب التسكع التي سلكتها الأرواح شتاتا و ضياعا ، وربما في بضع ابتسامات لامبررة أهدانا إياها ثغر طائش فرددناها بكل تلك الدهشة الخجولة و دقات القلب المتلعثمة .
 

لا أنكر أنني في كل مرة أسدل فيها جفوني ، يترآى أمامي وجه " أمل " ؛ وأنا الجالسة على طاولة خشبية استحالت طاولة بؤس فيما بعد ، أنتظر طبق الحلوى خاصتي .
 

كانت الصغيرة تضع يديها على زجاج الواجهة تطبع ملامح وجهها المرسومة بدقة ، الموصومة بكل أختام الجمال والحرمان ؛ تخبرني بإيماءات عفوية عن حاجتها لشيء ما .
 

اقتربت مني الصغيرة وباغتتني بعد إيماءتي الخجولة بالموافقة : " خالتو بدي عصير برتقال "

تلعثمت وأنا التي أعجز عن السيطرة على انفعالاتي : " عصير وكيك كمان " .. لترد بلهجة صفعت توددي وارتباكي : " بس عصير خالتو .. بس " .

قناعة ؟! .. لم أتخيل يوما أنها ستكون وليدة الحرمان ، وهل تلد الأشياء أضدادها إلا في تناقضات منطقية كبيرة ؟!
 

لقد أخبرتني " أمل " أنها من " حمص " وأن لها أحبابا هناك ، كانوا قد قضوا تحت ركام البيوت وعذابات الموت القاهرة .
 

الغريب أن الجميع يتهم أطفال الشوارع بالهمجية والمراوغة وأحيانا بأساليب الكسب غير المشروعة متناسين كل الأسباب والمواقف التي جعلت منهم ضحايا مشاغبة

كانت تحدثني بعيونها وتعابيرها المؤلمة قبل أن تحدثني بصوتها ، حدثتني حتى عدت لنفسي أحاورها بسذاجة .. فأسأل : هل يعرفون أن فاتورة الدمار الباهضة كانت من نصيبكم ؟
هل يعرفون أن أصوات الجوع تنتظر عائد " علبة العلكة " لتهدأ ..
هل يعرفون أن الطفولة تفترش الشارع تحاول اللهو واللعب ؟!
أم هل يعرفون أن المأساة كفيلة بالمأساة ؟ ..
 

لكنني سرعان ما أقدم لنفسي إجابات جامدة فأخبرها بأن الأغلبية لا تكن سوى النبذ والاحتقار لهذه الأرواح الصغيرة، في محاولات مهزومة كثيرة للتكذيب والإقصاء والتحايل على أي شعور بالذنب أو التعاطف.
 

يراودني موقف آخر لطفل آخر في منطقة أخرى داخل أسوار الموت ؛ تلقى صفعة على وجهه من رجل ثلاثيني بذيء الألفاظ بحجة أنه أصر عليه وألح كثيرا ليبيعه علكة مقابل خمس ليرات أو ما شابه.
 

الغريب هنا أن الجميع يتهمهم بالهمجية والمراوغة وأحيانا بأساليب الكسب غير المشروعة كالسرقة والانتشال، متناسين كل الأسباب والمواقف التي جعلت منهم ضحايا مشاغبة .
 

هل جربتم يوما شعور تناسي التبعات والتركيز على الأسباب ؟!
هل جربتم يوما شعور ابتسامة لوجه واحد من هذه الوجوه الصغيرة ؟!
هل جربتم الاستماع يوما لكل قصص محاولات الحياة ؟!
 

من هذا الذي أخبركم فقال أن رائحة الدم مرتبطة بوجوده ؟
أم من هذا الذي أخبركم أن الدم تعبير ظاهري عن الألم و الوقوف في مجابهة حقيقية مع الموت ؟!
 

ما أكثر الاحتضارات الصامتة وقضايا الموت البطيئة .. ما أعمق الجروح المكشوفة للبساطير بغير نقطة دم واحدة ..
 

ما أصعب أن تهوي بروحك بين أزقة الأحياء ، أن تهب عنقك للمقصلة في غياب مثير للكاميرا وعيون المتابعين ، أن تشتم رائحة الدم تنبعث من كل حبات العلكة التي ملأت قبضتك دوما وما ملأت معدتك يوما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.