شعار قسم مدونات

مطر من نار (٢)

blogs - gazza
الجزء الثاني.. 

كنّا قد رفضنا سابقاً فكرة الخروج من البيت ومغادرة المنطقة قطعياً وتحت أي شكل من الأشكال جراء تهديدات الاحتلال الإسرائيلي السابقة عبر الهواتف، لكن بدأ التفكير جدياً بضرورة المغادرة وبأي ثمن في ظل الجنون الإجرامي الذي يجري حولنا وفوق رؤوسنا، لكن يبقى السؤال الذي يحتاج إلى إجابة عاجلة وحكيمة.. كيف؟!

لم يطل انتظارنا مع تنامي أصوات كثيرة إلى مسامعنا وضجة تعلو على خجل في الخارج، وكان على أحد منا أن يغامر بحياته ويخرج يستطلع لنا ما الذي يجري؟.. ليعود حاملاً الخبر أن جميع من في الحي والأحياء المجاورة قد خرجوا مغادرين لمنازلهم..

وتم حسم القرار بذلك وصعدت على وجه السرعة يحدوني الأمل أنه مازال هناك فسحة للبقاء أحياء بعد زوبعة الليل، جلبت حقيبة كنت قد جهزتها مسبقا منذ بداية الحرب تحمل بعض الملابس لأطفالي والأوراق الرسمية وبعض الأموال.

سرنا متفرقين في بداية الأمر تلاشياً لقذيفة تعاجلنا جميعاً لتحيلنا إلى صرعى بين رفة عين وانتباهتها

ارتديت ملابسي على عجل مسرعة بالنزول ممسكة بيد صغيري الذي لم يغمض له جفن أيضاً مغلقاً بيده الصغيرة أذنيه حتى لا يسمع صوت الانفجارات المتتالية وبيدي الأخرى ابن عمه الذي يقاربه في العمر، أشد على أكفهم الصغيرة أريد أن أخبر قلوبهم الوجلة أني لن أترككم حتى الموت معاً أو أن ننجو..

وقتها حان موعد مغامرتنا الجديدة للسير في طريق يحفها الموت على كل ناصية، هنا توقف مطر القذائف المجنون قليلاً وكأن طائراتهم الاستطلاعية قد نقلت لهم صورة الأهالي وهم ينزحون من بيوتهم تاركين شقى العمر وجميل الذكريات خلف ظهورهم.

سرنا متفرقين في بداية الأمر تلاشياً لقذيفة تعاجلنا جميعاً لتحيلنا إلى صرعى بين رفة عين وانتباهتها، إلى أن هالنا ما رأينا من جموع الناس الغفيرة يسيرون كسيل عرم، يخطُون السير غرباً هرباً من كارثة محققة، شيوخ خط الزمن على وجوههم أوجاعه، مرضى يحملهم ذويهم دون أن يشعروا بثقل أوزانهم، أطفال ونساء تقرأ في نظرات عيونهم آلاف اللحظات المخيفة طوال ليلة كاملة، هنا سالت من عيني دمعة حرّة لا لشيء إلا لكمِ القهر الذي أصابني وأنا أشاهد هذه الحشود.

ما يربو على 100 ألف نسمة يتم تشريدهم بسبب صمودهم وتشبثهم بحقهم وأرضهم، مشهد نكبة 48 عاد للأذهان حتى لصغار الجيل الجديد الذين لم يعايشوه أصلاً، فها هم يرونه واقعاً مؤلماً من جديد بتشابه كبير في الوقائع والحيثيات تخاذل وخيانة، تواطؤ وتآمر عربي وصمت مخزي من العالم أجمع وهم يشاهدون هذه المشاهد بثاً مباشراً دون أن تحرك في قلوبهم المرضى أي وجع، لكنها كانت دمعة ولم أكررها لأني شعرت أن العدو يراني وأن دمعتي هذه إعلانٌ لهزيمتي فمسحتها سريعاً.

سرنا مع الجموع وما فتئنا ننظر خلفنا نطمئن على أن الجميع بخير وبكل خطوة تمر نستشعر أننا نجونا من قذيفة ستسقط تحيلنا لكتابة على شريط أحمر على الشاشات خبراً عاجلاً.. إلى أن وصلنا إلى موقف الشجاعية بعد جهد جهيد لنتفرق بعدها كل إلى وجهته هاربين من موت محقق.. لتبدأ حياة الأشباح بعد رحيل الأحياء…مجزرة الشجاعية.

وصلت إلى بيت عائلتي.. لم أفعل شيئاً سوى الاستحمام والنوم.. وفقط، لم أكن أريد شيئاً سوى النوم.. نمت ما يقارب العشر ساعات متواصلة، أتذكر حينها أني استنكرت على أمي أنها لم توقظني لصلاة الظهر وقد دخل وقت صلاة العصر منذ ما يقارب الساعة، فردت عليّ على عجل: "بيكفي إللي شفتوه يما، هلقيت بتصلي". هنا أيقنت أن الحياة ما زالت تعاركنا ونعاركها من أجل البقاء بعد ليلة أقل وصف يليق بها أنها "مرعبة لحد الجنون" …

استمر يومنا هذا الذي تلى المجزرة إلى ما قبل الغروب بفترة وجيزة كان الصمت يخيم على الجميع فمازلنا لا نستوعب ما الذي وقع وكيف أننا مازلنا بخير! .. إلى أن رن الهاتف ليخبرنا أحد جيراننا أن بيتنا قد تم قصفه وتدميره بصاروخ من طائرة حربية من نوع F16 ، ومع خبر سقوط البيت وإحالته إلى كومة ركام لم يعد للدموع مكان للاختباء فبدأت بالسقوط حرّى فقط مع تخيل المشهد وقبل رؤيته ..

بدأت الذكريات تداهمنا سريعا ً تزيد من وجعنا أضعافاً، لحظاتنا السعيدة في كل ركن فيه ذهبت أدراج الرياح مع تناثر الغبار في الهواء .. كل هذا بفعل صاروخ واحد.. أصبحنا "مشردين" لا مأوى لنا .. خرجنا ببعض الملابس والأوراق الهامة وتركنا كل شيء وببساطة لن نعود لنجده مكانه ..

هذا اليوم لم يمر مرور الكرام، كان نهايته عظيمة وختامه مسكا أدخل البهجة والسرور على قلوب الغزيين جميعاً، فبعد منتصف الليل خرج علينا الناطق باسم المقاومة معلناً "أن الجندي صاحب الرقم 6092065، هو أسير لدى كتائب القسام"

عاجلتني صغيرتي بسؤال "يعني يا ماما دارنا راحت؟ وغرفتي راحت؟ ألعابي وأغراضي كلها راحت؟ وسيارتنا كمان قصفوها؟".. كنت أناظرها وأرى الدموع تتساقط من عينيها ولا أجد إجابات لأسئلتها الطفولية رغم علمي بإجابتها، فأجبت باقتضاب "آه يا إمي .. كل إشي راح".. هنا تدخلت جدتها لتهدأ من روعي وروعها قائلة "الحمد لله يا تاتا إنكم كلكم بخير، وهذا الأهم، وهي بابا موجود وبيجيبلك دار جديدة وغرفة جديدة وألعاب جديدة".

لكن الواقع مرير أكثر من كوننا بخير، لو أننا ذهبنا موتى مع هذا البيت ربما أفضل من تجرع الألم أكثر من مرة في هذه المعركة، لكن تبين فيما بعد أن البيت بحفظ من الله بخير وأن الصاروخ طال خمسة بيوت خلف بيتنا أحالها ركاماً، وفي أول هدنة تم الإعلان عنها مع العدو الصهيوني اكتشفنا أن قذيفة طالت الغرفة التي كنا نتحصن بها قبل خروجنا من البيت ولو أننا بقينا جالسين فيها لأصبحنا في عداد الشهداء والجرحى.

هذا اليوم لم يمر مرور الكرام، كان في نهايته أمر عظيم وختامه كان مسكا كما يقال، أدخل البهجة والسرور على قلوب الغزيين جميعاً وأهل الشجاعية خاصة بقدر ما أصابنا من وجع وألم.. فبعد منتصف الليل خرج علينا الناطق باسم المقاومة معلناً "أن الجندي صاحب الرقم 6092065، هو أسير لدى كتائب القسام".

هنا بتنا على يقين أن ما جرى في الليلة السابقة ما هو إلا رد فعل مجنون وهستيري من قبل المحتل وقيادته العاجزة على قهر الشعب الفلسطيني، لأن المقاومة قد آلمتهم بشكل كبير والذي دفعهم للرد بهذه الصورة الدموية ومحاولة إبادة جماعية للحجر والشجر والإنسان في الشجاعية، وما خفي كان أعظم فما زال الاحتلال يتكتم لهذا اليوم على خسائره، والمقاومة تخفي الكثير.

وركعتين شكرا لله.. على كل شيء..
انتهى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.