شعار قسم مدونات

من الذاكرة

blog-غزة

على شاطئ الذكريات مجاذيفي تتكسر وسفينتي تأبى الإبحار.. إلا أني أبحرتُ، لعالم اختلط فيه الحب والكراهية، والأحياء والأشلاء، والهدم والبناء، والضحكات والصرخات، والهدوء والصخب، عالمٌ تعجز الحروف عن وصفه والعقول عن إداركه، عالمُ تجتمعُ فيه التناقضات.. تتعارك وكأنها جبال ترفض أن تُزال، عالمُ له طُبول عند سماعها تُنْسى الإنسانية وتتعثر في طريق الموت الحرية، عالمٌ يبكي ولا يجد من يكفكف له الدمع، عالم الحرب أي عالم قذرأنت.

المستهدف في النهاية هو أنت.. أكنت فلسطينيا مسلما أم مسيحيا، حين تسكن أرضك وتمسك الحجر لتدافع عن صمت أمة أبت إلا الخنوع

لقد كانت ليلة عصيبة جداً، نام إخوتي الصغار وقد نامت معهم أحلامهم متشبثين بأمي بين حنايا هذا الحضن الدافئ. لا أعلم كيف ستمضي هذه اللية فهي أول ليلة في الحرب مع محتل لا يفرق بين حجر أوشجر أو إنسان و حيوان ، لم أنس فَهُمُ الذين وضعوا البنقدية على رأسي وأنا في الحادية عشر من عمري عندما طلبت منهم أن أملأ قارورة الماء.. في بيتي لا أستطيع أن أشرب الماء أو أذهب الى دورة المياه إلا بأذن.. احتلال فوق احتلال، هم الذين حبسونا وقيدونا في غرفة واحدة أنا ونحوَ عشرين من أفراد عائلتي دون مراعاة لأدنى شعور بالإنسانية.

أُقَلِبُ القنوات الأخبارية.. أمي: ضع إخوتك برفق كل واحد في مكانه فأنا لا أستطيع النوم..

قامت من نومها أسماء أختي الصغيرة لتنام بحضن أمي مرة أخرى، وفجأة ومن غير سابق إنذار صاروخ مدو يُزَلْزل البيت ليتكسر زُجاج النوافذ. نفس عميق.. الحمد لله لم نمت؛ لنعي بذلك أنه صاروخ تحذيري. من المستهدف؟ لا يهم الآن، ابن عمي يصرخ أخلوا البيت أخلوا البيت.. ماذا نفعل؟ فهم سيقصفون البيت بعد خمس دقائق أو أقل، الكل يصرخ من حَولي، أمي: بسرعة اخرج، وأختي الصغيرة متشبثة بالباب أريد أن ألبس ملابسي، يا الله هذا ليس وقتك يا أسماء فالثانية محسوبة والروح قد تزهق في أي لحظة، لتذهب امي بسرعة وتحضر ملابسها لنخرج بسرعة وفي منتصف الطريق تبكي أختي: ما بِك؟ تقول والبراءة تقطر منها والحزن قد انتابها: لقد نسينا الدجاج يا أمي، من سيضع له الطعام، سيموت.. أنبكي أم نضحك؟ ألا تعلمين يا صغيرتني أننا ربما لن نعود.

الأمل سينبثق حتماً  من بين ثنايا الألم لنروي حكاية شعب رفض الاستسلام والمساومة على حقه وقضيته

لم يقصف البيت والحمد لله، وخوفاً على أرواحنا لم نعد، لكن من المستهدف؟

لقد تفرقنا، أبي في بيت وأنا وأخي الذي يصغرني في بيت وباقي إخوتي في بيت، هنا التشرذم، هنا تعيش مرارة التهجير القسري، ليقف الفِكر حائراً، ماذا نفعل؟

يمضي اليوم الأول والثاني والثالث ليتخذ أبي قراراً جريئاً ربما أُجبر عليه؛ ليتصل بي وبأمي لِيَقول: عودوا إلى البيت لِنَمُتْ تحت سقف واحد فلا حافظ إلا الله.

في النهاية علمت أنَّ المستهدف هو أنت.. سواء أكنت فلسطينيا مسلما أم مسيحيا.. حين تسكن أرضك وتمسك الحجر لتدافع عن صمت أمة أبت إلا الخنوع.

علمت أن الحرية والاستقلال له ثمن غال هو أنت، علمت أن لا خيار وأنت بين فكي كماشة المجتمع الدولي تارة والجيش الإسرائيلي وإجرامه تارة أخرى سوى الصمود، سوى المقاومة، ولكن.. سينبثق الأمل حتماً من بين ثنايا الألم لنروي حكاية شعب رفض الاستسلام والمساومة على حقه وقضيته العادلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.