شعار قسم مدونات

سفر بين لوحة مفاتيح وقلم

blog سفر1

عقد ونصف من الزمن إلا قليلا، كان كافيا لأن تنتشر المدونات كالنار في الهشيم، من أقصى العالم لأقصاه، تمكن خلالها الحرف من صياغة كلمات وأفكار اجتازت كل الحدود، لتستقر عند كل من أراد قراءتها، دون أن تسأله عن جنسه أو عرقه، أو دينه أو موطنه.

تحمل الشباب مسؤولية قيادة هذا الشكل الجديد من التعبير، فبدأ ينسج الكلمات تلو الكلمات، كما تنسج الجدة الماهرة الخيوط لصنع لباس أحفادها، أو على شاكلة رسام يتفنن بريشته في لوحة تجسد معاني الجمال، ليكون بذلك الحرف أسمى سلطة.
 

المدونات أصبحت بمثابة بيوت يلقى فيها المدونون راحتهم، تارة بورقة وقلم، وتارة أخرى بلوحة مفاتيح وشاشة حاسوب

وبما أن الشباب معروفون بحماستهم وحيويتهم، فقد استطاعوا أن يتجاوزوا بكتاباتهم الحدود التي رسمها المجتمع العربي، فعبروا عن آرائهم بكل حرية وعفوية ومسؤولية، رفعوا السقف عاليا، انتهلوا شيئا من الماضي ليتجهوا نحو المستقبل.

أصبحت المدونات بمثابة بيوت يلقى فيها المدونون راحتهم، تارة بورقة وقلم، وتارة أخرى بلوحة مفاتيح وشاشة حاسوب. 

أول بيت سكنته كان هو "منتديات ستار تايمز" سنة 2007، لقد شكل هذا المنتدى فضاء رحبا للعديد من شباب العالم العربي فاق عددهم الآلاف، كما أنه تميز بتعدد فضاءاته ومساحاته التعبيرية، تنوعت بين رياضة وثقافة وأدب ودراسة وتربية وعالم الانترنيت وتصاميم.. وغيرها من "الأطباق" التي يتغذى منها كل واحد وما اشتهاه، وبما أنني كنت في سني الرابعة عشر، فقد كنت ألتهم من الأطباق التي تفتح شهيتي وشهية بقية المراهقين، تناولت من منتدى الانترنيت والكمبيوتر والألعاب الالكترونية، ومن منتدى التصاميم والإبداع الفني، ومنتدى الترفيه، ومن منتديات كورة.

استطاع هذا البيت أن يوفر لنا فضاء تفاعليا، تطرح فيه أفكارك وتناقشها، تستفسر عن أي شيء يدخل ضمن موضوع المنتدى، تطور مشاركتك وتحصد نقاط التميز بقدر تفاعلك. لكن مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي سنة 2009، استطاعت هذه الأخيرة أن تزيح المنتديات من مكانها، خاصة مع ظهور "فايسبوك"، الذي وفر فضاء أكثر حرية وتفاعلا من سابقه، لتقوم أكبر هجرة شبابية من مختلف المنتديات إلى الحاضن الجديد.

من بين الطرائف التي حدثت معي بمنتدى "ستارتايمز"، هو أنه سنة 2009 عرف المغرب تنظيم انتخابات جماعية، حينها استغليت هذا الفضاء من أجل الترويج لحملة مقاطعة الانتخابات، كيف ؟ أعددت تصاميم بسيطة تحمل عبارات "قاطعوا المهزلة" و"مقاطعون"، ومن ثم نشرتها بمنتديات "كورة مغربية"، لكي أضمن تواجد أكبر عدد من المغاربة. لكن ما إن نشرت التدوينة حتى حجبت، بمبرر أن لا علاقة للموضوع بالمنتدى..

لم أندم على ما قمت به، لأن انتخابات 2009 أثارت الكثير من الشكوك، وسال حولها مداد الكثير من الباحثين والمحللين، لأن الحزب الذي حصل على المرتبة الأولى، لم يمضي على تأسيسه إلا أشهر معدودة قبل الانتخابات، وهي مدة غير كافية لأن يتعرف المواطنين على مشروع الحزب وبرنامجه.
 

لا يستطيع أحد اليوم أن ينكر التأثير الذي تقوم به هذه الشبكات الاجتماعية على أعلى المستويات بمجتمعاتنا العربية، حتى أنه أصبح صوت من لا صوت له

البيت الثاني الذي سكنته حمل عنوان "الجزيرة توك"، كان أكثر اتساعا وتطورا من الذي سبقه، جمع هذا البيت ثلة من الشباب من مختلف بقاع العالم، ووفر لهم أحسن ظروف الكتابة.

لم يكن النشر بالجزيرة توك أمرا يسيرا، نظرا لاتساع قاعدة قرائه ومتابعيه، أضف إلى ذلك الشعار الذي رفع من أول يوم: "إعلام ينبض شبابا"، فكان لزاما على كتابه ومراسليه أن ينبضوا في كتاباتهم بعمق، كل العمق.

كان سقف هذا البيت مرتفعا جدا، لدرجة أنه لم تصطدم رؤوسنا يوما بسقفه، عبرنا بكل حرية ومسؤولية عما يدور بمخيلتنا، عما يشغل بالنا، كنا نفكر بصوت مرتفع، أشركنا معنا قراءنا في كل ما تخطه لوحة مفاتيح حواسيبنا، أدركنا أن للكلمة قوة تفوق قوة السلاح، فإذا كان السلاح يقتل مرة واحدة، فالكلمة تقتل كلما قرأت.

لا شك أن الأشكال التقليدية للتدوين تراجعت بشكل ملحوظ أمام بزوغ مواقع التواصل الاجتماعي، هذا الأخير وفر للمهتمين وسائل أكثر انتشارا، من التدوين بالنص إلى التدوين بالفيديو، ولا يستطيع أحد اليوم أن ينكر التأثير الذي تقوم به هذه الشبكات الاجتماعية على أعلى المستويات بمجتمعاتنا العربية، حتى أنه أصبح صوت من لا صوت له، وكم من وضعيات تغيرت بفضل تسليط المدونين الضوء عليها عبر حساباتهم وصفحاتهم، ولربما لم تكن ثورة "الياسمين" بتونس سنة 2011 أن تشتعل، لو أن خبر حرق البوعزيزي نفسه لم يتجاوز حدود مدينة سيدي بوزيد.

حينما صنع التلفاز، ظن الكثيرين أن نهاية المذياع قد حلت، وبعدها حينما صنع الحاسوب ظن الناس أن مهمة التلفاز قد انتهت، وقبل سنين خلت ظهرت الجرائد الإلكترونية، فاعتبروا أن الأخيرة ستقضي على الجرائد الورقية، لكن اليوم لا زلنا نرى المذياع جنب التلفاز والحاسوب، ولا زلنا نقرأ الجرائد الورقية والالكترونية على سواء، لا أحد استطاع أن يهزم الآخر ويمسح أثره.

هذا هو حال المدونات، قد تمرض، لكنها لن تموت.. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.