شعار قسم مدونات

في ظلال الكتابة

blogs - write
 
لكل مهنة مخاوفها، يخشى الصياد مزاج البحر، والرئيس المنتخب يخشى الانقلاب، أما الكاتب فيخشى غياب الإلهام، ويخشى الورقة البيضاء؛ تلك المساحة التي تتمدد بصلف، بلا أدنى إشارة للحياة، قبل أن تستوي الفكرة في عقله، وتبزغ لحظة الكشف، ويبدأ الكلام بالتداعي من علياء المعنى.

"لماذا أكتب ؟" كان هذا سؤال جورج أورويل الذي أجاب عنه في كتاب كامل، قائلا في ناحية منه: "أكتب لأن ثمة كذبة أريد فضحها". البعض يكتب ليتحدى النسيان ويطبب الذاكرة ويقتحم الخلود، البعض يكتب لنفسه فيما يكتب آخرون للآخرين، وهي على كل تحدٍ مع الذات، واستسلام لها في الوقت عينه، وحين تتعدد علل الكتابة وأسبابها فهذا دليل على عظمتها وأهميتها بتعدد أجناسها المتنوعة.

الكتابة قد تكون محض هبة، وقبسًا "إلهيا" يُلقى في النفس، ما يخفف من وطأة المسؤولية، وثقل انتظار الخاطر الكتابي، فإن لم يأتِ الآن، فلاحقا

هل الكتابة هبة أم مكتسب ؟ وهل يمكن تعلم الكتابة ؟
ليس القصد تعلم الأبجدية، فمنذ اجتراح معجزة الكتابة في العراق، وبعد أن حمل الفينيقيون أبجديتهم واقتحموا البحار، وملايين البشر تتقن تسجيل موارد التجارة، وتوثيق الديون، وحصر مكاسب الزراعة، وكتابة العهود والمواثيق والمراسيم الحكومية، وقد كان هذا بعد انتظام المدن والمراكز الحضرية، لكن القصد هو جنس الكتابة الإبداعية شعرا ونثرا، والسؤال المهم: هل يمكن تعلم هذا النوع من الكتابة ؟

أعتقد أنه يمكن اكتشاف قابلية الكتابة فقط، فكل إنسان يولد بهبات واستعدادات قبلية لأشياء محددة، وبعيدا عن توهيمات دورات التطوير للذات التي تروج لإطلاق العملاق الكامن، والمشي على النيران، وتصور أحيانا للبعض أن بإمكانهم أن يحققوا كل ما يريدون، إذا ما رغبوا، فالكتابة مثلها مثل كثير من المواهب، يوهبها المرء ولا يكتسبها، ومدار الاهتمام يجب أن ينصب على اكتشاف تلك الهبات وصقلها وتطويرها فقط.

عن هذا تتحدث "إليزابيث جيلبرت"، والتي كتبت كتابها ذائع الصيت "طعام صلاة حب"، ساردة تجربة نشر الكتاب، وكيف أنها ظلت تحت مقصلة المسؤولية الشخصية والتوقعات العالية بعد نجاح كتابها، ما جعلها أمام تحدٍ يفوق القدرة على التحمل للكتابة مرة أخرى، انطلاقا من الكتابة كمهارة مكتسبة صرفة، وحين استعصى الأمر عليها خاضت تجربة مريرة وصعبة، ومكاشفة طويلة مع الذات خلصت في نهايتها إلى أن الكتابة قد تكون محض هبة، وقبسا "إلهيا" يُلقى في النفس، ما يخفف من وطأة المسؤولية، وثقل انتظار الخاطر الكتابي، فإن لم يأتِ الآن، فلاحقا، لأنه ليس اختراعا شخصيا، وإنما رزق يُساق، ومرزوق يتلقاه ويمرره.

وإذا سُلّم بهذا، فمن المهم فهم أن الحالة الإبداعية في استثناءات ما يمكن استدعاؤها وترويضها، فعوضا عن انتظار رياحها التي تهب فجأة، نجد كتابا ألزموا أنفسهم بطقوس معينة تسهم في استحضار الحالة الإبداعية، كما كان يفعل الكاتب الكبير "نجيب محفوظ" في طريقه المحفوف بالكلمات نحو نوبل ١٩٨٨م، فقد كان يلزم نفسه بساعات معينة يكتب فيها بانضباط آلي، بعكس "محمود درويش" مثلا، الذي كان يستيقظ صباحا، ويتأنق، ثم يذهب للمقهى باعتياد يتناول فطوره وقهوته منتظرا لحظة الإلهام، والقصيدةَ التي يقول "أحمد بخيت" أنها تندلع في القلب بغتة!

ويجدر الحديث عن التجربة الذاتية بوصفها من أهم محددات الإبداع، فلا يمكن أن ينبت نص من العدم، أو أن يشتعل بلا شرارة قديمة، والكتاب الخالد بناءٌ والبناء لا يكون على الهواء، "وكل رواية هي سيرة ذاتية" كما يقول "ماركيز"، والتجارب القاسية هي التي تنتج الآداب العظيمة.

وقد كان من سيرة "إرنست هيمنغواي" شيء عجيب في سياق الحديث عن التجارب، ففي ديسمبر ١٩٢٢م، سُرقت من قطار بباريس حقيبة لـهيمنغواي كان قد وضع فيها كتاباته الإبداعية التي كتبها في بتروفسكي، وميتشيغان، وتورنتو، إضافة إلى القصص والقصائد التي كتبها في باريس، وذلك حين غادرت زوجته مقصورتها لفترة قصيرة في محطة ليون. لم يستعد أيًا من هذه الأعمال، وكان من بين الأعمال مخطوطة مكتملة جزئيا لما كانت ستكون أول رواية لـهيمنغواي !

البشرية مدينة لأولئك المبدعين الذين حملوا عبء الكتابة وتقلدوا تمائم الكلام، إنهم من تحدوا العمر والتقطوا الحروف المنفلتة في الليالي

والذي حدث لاحقا، أن هيمنغواي واصل حياته المنذورة للإبداع، وكتب روائعه: (وداعا للسلاح) (لمن تُقرع الأجراس) (الشيخ والبحر) (أن تملك وألّا تملك) وروايات أخرى .. كما كتب العديد من القصص القصيرة في عشرينات وثلاثينات القرن المنصرم .. كما عاش حياةً ممتدة كمراسل وصحفي حرب في إيطاليا وألمانيا، وسويسرا واليونان، وإسبانيا وتركيا، وكتب تقارير عن مؤتمرات، وعن الحرب اليونانية التركية، وحرب الشوارع التي رافقت تقدّم الفاشية والشيوعية نحو السلطة السياسية !

وفي عام ١٩٥٤ م، فاز بجائزة نوبل للآداب وتسلّم الجائزة نيابة عنه السفير الأمريكي في السويد لأنه كان يتعافى من حادث طائرة خطير في كينيا في ذات السنة .. وقد يفكر شخص في أنه لو لم يفقد حقيبته تلك، في ذلك القطار بباريس، لربما استمر كاتبا عاديا، لكن التجربة تلك، وتجارب الحب والحرب، والأحزان والخيبات التي مزقت قلبه وتناوشته، جعلت من "هيمنغواي" ما صاره لاحقا.

هذا حديث عن الكتابة في جنسها الأدبي والإبداعي، وقد يكون حديث آخر يقوله آخرون عن أجناس الكتابة الأخرى. الآداب العظيمة هي كنوز البشرية، وفيها خبايا التاريخ الذي زورته أقلام المنتصرين، والبشرية مدينة لأولئك المبدعين الذين حملوا عبء الكتابة، وتقلدوا تمائم الكلام. إنهم من تحدوا العمر، والتقطوا الحروف المنفلتة في الليالي، مدونين الحياة في أقسى وأشهى لحظاتها، وانسلخوا في هجير المعاني، ليعيش القارئون في ظلال الكتابة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.