شعار قسم مدونات

الوعي والوجود

blogs-human

"كان يمكن أن لا أكونْ
كان يمكن أن لا يكون أَبي
قد تزوَّج أُمي مصادفةً
أَو أكونْ
مثل أُختي التي صرخت ثم ماتت
ولم تنتبه
إلى أَنها وُلدت ساعةً واحدَة
ولم تعرفِ الوالدَة …"

محمود درويش-لاعب النرد.

قد تكون الأشياء الأكثر بداهةً هي الأكثر إثارةً للدهشة والاستغراب، فمن الوهلة الأُولى لا يبدو أن هُناك ما هو أكثر بداهة من وُجود الإنسان، لدرجة أن "رينييه ديكارت" اعتبرها الحقيقة التي لا يُمكن التشكيك فيها، والتي قامت على أساسها كل فلسفته.
 

سيوجد إنسان يفكر ويتساءل عن وجوده وعن الحظ السعيد (أو التعيس) الذي جعله هو بالذات يكون موجودا هنا والآن، وليس غيره ممن كانوا ضمن ملايين النُطَف في صلب أبيه

ولكن ماذا لو وضعنا ديكارت مكان محمود درويش، وبدلا من "أفكر إذن أنا موجود"، قال: كان يُمكن أن لا أكون؟ وماذا لو لم يكن ديكارت، هل سيكون هُناك أبٌ آخر للفلسفة الحديثة؟ هل يمكن أن نتخيل الفلسفة الحديثة نفسها وهي تقول كان يُمكن أن لا أكون، أم أن التاريخ الإنساني أكبر من أن يتوقف على الأشخاص، وأن ديكارت ودرويش وغيرهما مجرد أسماء متغيرة ترتبط بالوعي والإبداع الإنساني؟

الشعر يختلف عن الفلسفة. فربما يُمكننا تصور ظهور الفلسفة الديكارتية (باسم آخر بالطبع) حتى لو لم يكن ديكارت موجودا، ولكن هل يُمكن تصوُّر قصيدة "لاعب النرد" من دون محمود درويش؟
 

إن الرؤية الوجودية التي تعبر عنها القصيدة لا شك موجودة بأشكال مختلفة، ولكن صياغتها لا يُمكن أن توجد إلا بنفس احتمالية وجود "محمود درويش" نفسه في زمان أومكان آخر، وتقريبا هذا يساوي احتمال وجود كون آخر مطابق تماما لهذا الكون الذي نعيش فيه الآن، أو احتمال العود الأبدي الذي قال به "نيتشه".

وبالمثل يمكننا أن نتصور اكتشاف النظرية النسبية حتى لو لم يكن هُناك "ألبرت آينشتاين"، أو نظرية التطور حتى لو لم يكن "داروين" قد وُجد، ولكن لا يمكننا تصوُّر رواية "الإخوة كرامازوف" من دون ديستويفسكي.
 

ديكارت كان يبحث عن نقطة واحدة ثابتة ليقف عليها. فالشك بالنسبة لديكارت كان يتعلق بأساس المعرفة، بإدراك الوجود الذاتي، ولم يكن حول الوجود في ذاته. ولكن درويش في "لاعب النرد" ينبهنا إلى حقيقة أن وجودنا لم يكن ضرورة أو حتمية، بل كان مصادفةً، أو بتعبير أدق: تقاطع مجموعة من المصادفات. ليس هذا وحسب وإنما أيضا استمرارنا في الحياة هو أيضا مصادفة.
 

ومع أن وجود درويش كشخص لم يكن أمرا حتميا، إلا أن جُملة "كان يُمكن أن لا أكون" تبدو أكثر حتمية، لأن هذه الجُملة تعبّر عن وعي إنساني مشترك، فكل إنسان يشعر بأنه كان يُمكن أن لا يكون، ويعبر عن ذلك حتى لو لم يكتب قصيدة مثل "لاعب النرد". فليس هُناك إنسان "واجب الوُجود".
 

إن مصادفة الوجود تبدو مثيرة للدهشة من جهة، ومن جهة أُخرى تبدو أكثر من عادية، ففي النهاية سيوجد إنسان يفكر ويتساءل عن وجوده وعن الحظ السعيد (أو التعيس) الذي جعله هو بالذات يكون موجودا هنا والآن، وليس غيره ممن كانوا ضمن ملايين النُطَف في صلب أبيه.
 

إذا رجعنا إلى الوراء، إلى الجد الأول والجد الثاني و… والعاشر و…، سنجد أن وجود إنسان محدد -أنت مثلا- هو مثل احتمال واحد ضمن مليارات الاحتمالات الأخرى. وهو أمرٌ يجعلنا نشعر بالحظ -نحن الذين أُتيحت لنا فرصة أن نشعر بالوجود- حتى لو لم نكُن نشعر بالسعادة في حياتنا.
 

ولكن إذا تمعنّا قليلا سيزول هذا الشعور بالحظ، فمهما كان احتمال الوجود ضئيلا، سيكون هُناك في النهاية بشرٌ يشعرون كما لو أنهم قد تم اختيارهم من بين المليارات من البشر الممكنين. بعبارة أُخرى نحن موجودون لأن أحدا ما كان يجب أن يكون هنا، وليس لأننا مميزون. فنحن لسنا مختارين ولا مميزين ببساطة لأن الاختيار والتمييز يجب أن يكون لاحقاً للوجود، لكي تكون محظوظاً أيضاً يجب أولاً أن تُوجد.
 

وليس هنا ما يدعو للدهشة ولا حتى للشعور بالحظوة لدى الأقدار الخفية أو مجرد الحظ، لأن كل الذين سيقولون "كان يُمكن أن لا أكون" يشعرون -مؤقتا على الأقل- بأن صدفةً أو إرادة كونية ما، هي التي ألقت بهم -دون غيرهم- في الوجود.

كما أن كل نقطة زمنية لها موقع وحيد في نسيج الزمان/المكان، كذلك كل وعي ذاتي يوجد مرة واحدة في حيز محدد من هذا النسيج

– ماذا؟ هل قلت ألقت بهم في الوجود؟

هذه الجُملة لا يُمكن أن تكون صحيحة منطقيّا، فنحن نُوجد ولسنا نأتي إلى الوجود وكأننا قد قدِمنا من مكانٍ ما، لأننا قبل أن نأتي من أي مكان يجب أن نُوجد أولا. ومع ذلك، هُناك بالتأكيد شروط سابقة وضرورية لوجودنا، ولكن هل هي كافية أيضا؟
 

إن وجود شروط ضرورية وكافية لوجود الإنسان المحدد ينفي العرضية والصدفة عن هذا الإنسان. وإذا كانت الصُدفة تُشعرنا بهشاشة وجودنا فهي أيضا تمنحنا الدهشة، الدهشة التي عاشها درويش وهو يقول كان يُمكن أن لا أكون، بينما الحتمية كأنما تضعنا تحت ثقل كوني رهيب، وتسلبنا بهجة الشعور أننا موجودون في الوقت الذي تجعل فيه وجودنا يبدو أكثر صلابة وقوة، كونه ليس عرضيا وليس مجرد صدفة.

وعلى أية حال نحن موجودون، في هذا الآن وهُنا، ولكن هل كان يُمكن أن نأتي في زمان آخر، أو مكان آخر؟ هل كان يُمكن أن أكون في حضارة كوش أو في حضارة سومر أو أن أكون أميركيا في القرن الحادي والعشرين؟
 

هذا السؤال شبيه بالسؤال الآتي: هل كان يُمكن أن يأتي القرن الحادي والعشرين الذي نعيش فيه الآن في الألفية الرابعة قبل الميلاد؟ سؤال بلا معنى. لا يُمكن أن أكون في أي زمانٍ آخر أو مكان، تماما مثلما أن القرن الحادي والعشرين لا يُمكن أن يأتي أو أن يُوجد في العصور السابقة ولا اللاحقة، فكما أن كل نقطة زمنية لها موقع وحيد في نسيج الزمان/المكان، كذلك كل وعي ذاتي يوجد مرة واحدة في حيز محدد من هذا النسيج.
 

كل "أنا" لها حيّز وحيد على هذا النسيج، لا يُمكنها أن تخرج منه، أو أن تنفصل عنه، ببساطة لأن هذا الحيز الزماني/المكاني هو الذي يصنعها، ويمنحها تفرُّدها وتميّزها غير القابل للتكرار تماما مثل لحظات الزمان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.