شعار قسم مدونات

الموسيقى لا تكفي!

blog موسيقى


يكتب بعضهم أن تشجير الشوارع وفتح معاهد الموسيقى وخشبات المسارح والسينما وسوى ذلك من فرص ترطيب الحياة وترغيد العيش، يمكن أن تحل مشكلة "الإرهاب"، أو على الأقل ستخفف من حدة "التشدد" وقدرة الخطاب "المتطرف" على استقطاب الشباب وتوظيفهم لأجندته التدميرية والدموية.

أقول وبأقل قدر من الحالة الصحوية التي تربطني بها علاقة اجتماعية أكثر منها فكرية، أنه مقترح سطحي تماماً وحل عبثي لا يقل عن سذاجة سواه من تلك المطروحة لمعالجة طرف من المسألة دون مناولة تعقيداتها العميقة.
 

حج الشباب إلى الإرهاب في بيئة متداخلة من الورطات الواقعية وقصور تشترك فيه قائمة طويلة من المسؤولين

انضم إلى داعش مثلاً آلاف من شباب تونس التي عاشت العلمانية في أقسى صورها، ومن الجيل الثالث لمسلمي أوروبا وهم أبناء أصلاء لبيئة الترف الفني والثقافي، وانضم إليها بعض مغني الراب والهيب هوب، ولم يمنع ذلك أحداً عن رفض داعش وثقافتها المتوحشة وربما كانوا لبنتها وأصل مادتها بلا منازع.
 

الإرهاب خليط من الأسباب السياسية والثقافية والدينية؛ الإرهاب وحج الشباب إليه هو ابن بيئة متداخلة من الورطات الواقعية وقصور تشترك فيه قائمة طويلة من المسؤولين، وكون المسرح والموسيقى يمكن أن تمنع متشدداً عن قتل نفسه وذويه، أو غيابهما يدفع آخر إلى التمنطق بحزامه الناسف ليفجره في جماعة من الناس لا يعرفهم حتى؛ هو مقترح اعتباطي تماما.

للإرهاب حالتان، واحدة عامة وأخرى فردية، العامة هي المتصلة باختلال يعانيه العالم في قيمه الحاكمة والثقافة الغالبة التي تتعامل بموازين متفاوتة يكون الضعيف فيها مغلوباً والعاجز مسلوباً، بينما يزيد القوي في غطرسته وذو البأس في سلطانه.

هذا الاختلال الكبير في النظام العالمي يخلق ثغرات تتسرب من خلالها المظلمات الصغيرة التي احتقنت وترمدت حتى ألهبها الغضب والشعور بالضيم المركب من ظلم القريب وازدواجية الغريب، وبإزاء ذلك ينمو الحقد الأعمى وقد طمست بصيرته الخسارات المتتابعة دون حساب حتى أكفرته وعرت بقايا اتزانه وإنسانيته فبدأ بنفسه وأهل بيئته وبيته، ولا يكف ليشفي غليله ويروي نقمته وظمأه.

هذا الاختلال العالمي تسبب في مظالم شتى على المسلمين وسواهم، وهو ما يفسر انتقال فرد إلى دين الإسلام ثم التحول مباشرة إلى جندي للخلافة المزعومة، في مسافة زمنية غير كافية للاقتناع، ذلك لأن شعوره بانحياز النظام العالمي خلق له الاستعداد والأرضية للانضواء تحت الحل الداعشي كمخلص لشعوره بالضيم ونافذة متوهمة للحل.

ولأن المسلمين مشدودون بعاطفة قوية إلى تاريخهم المؤثر في خارطة العالم، كان شعورهم بالضيم أكبر، ولذا أصبح النشاط المتطرف لمن يدعي إسلامه أظهر وأكبر.
 

"الحركية" بديلا عن الانتظار هي ذلك الوادي السحيق الذي ابتلع منظري الستينيات والسبعينيات، حالة من تسطيح المشكل العربي ومعالجة الواقع الإسلامي مضافاً إليه عنجهية في تناول حتمية دور الدين في مسألة النهوض دون مراعاة الظروف الموضوعية للزمان، وأمام سد الباب السياسي عن أي فرصة للتمكين وتمحيص الخيار "الإسلاموي"، انفجر في وجه الجميع بعد حقنه بالمثالية المفرطة وقدرته الخيالية على حلحلة الانسداد التاريخي للأمة المتوقفة أمام سرداب المنقذ والمخلص والمهدي الذي لم يكتب له الخروج بعد.
 

الإرهاب في حالته الفردية هو انضمام مراهق إلى منظومة متشددة يبذل فيها نفسه، وربما انقلب من عربيد إلى جندي مخلص لراية معتمة

"داعش" مجرد تتويج لكائن ذي خلفية إسلامية، منذ اقتنع قطاع من المنظرين وأدواتهم من الشباب المتحمس أن "الجهاد" بصفته المستباحة هو دواء علل العالم وأحوال المسلمين، أغراهم الانتصار على السوفيات في أفغانستان، رغم أنه انتصار جزئي تحملت أعباءه الدول الكبرى التي وقفت في خلفية المشهد، ولكن الانتصار خدّاع، واستمر تبلور هذه الحالة الجهادية المشوّهة كسبيل للخلاص، واستقر به الحال إلى "داعش" بتوحشها المفرط وعنجهيتها.

القوة هي المنطق في عرف داعش وسلوكها، أو هو ذلك الدرس المستفاد من رحلة تشكل الحالة وعقيدتها المستقرة، وهو أقصى ما يبلغه المتشدد اليائس بعد أن خلت جعبته من إمكانات العقل والرشد، وأظنني سأجزم أن نهاية الأشياء تبدأ عندما تأكل بعضها، فليس بعد القوة العمياء منطقاً إلا الموت.

والإرهاب في حالته الفردية هو الذي يفسر انضمام مراهق إلى منظومة متشددة يبذل في سبيلها غالي الروح من نفسه وأمه وأبيه، وربما انقلب بين عشية وضحاها من عربيد إلى جندي مخلص لراية معتمة في ظلماء التطرف.

وهو ضحية الوعي الزائف، وربما كان طبيباً أو مهندساً في درجته العلمية، ولكنه مستسلم من جهة وعيه لرواية سياسية سطحية تقدمها داعش لاستنهاض واقعه، وهو أمام تهافت ذلك الواقع يملك قائمة من الحلول منها المدنية الهادئة بطبيعتها السلمية والارتقائية، وتلك المتطرفة المعتدة بدوافعها وغاياتها ولو تطلب ذلك التضحية بالروح في سبيلها، وبينهما الرضا المعجون بعذابات الصمت المتأجج بالأسى والغيظ.

يواجه في واقعه خيارات مسدودة، وحالة سياسية محبطة، ومستوى اجتماعياً هابطاً لا يرقى إلى حجم طموحاته التي رضعها من وحي التأثير التاريخي الذي تربى عليه عن أمته ودينه، فضلاً عن انغلاق السبل للتغيير ووسائل التأثير، وأمام ذلك كله أصبح نهباً للانفجار عبر أيقونة داعش المتحفزة لالتهامه وهضمه في أيديولوجيتها الجائعة للأنصار والمهاجرين.

في ضوء كل هذا المحيط من الإحباط تتخلق سلسلة متعرجة لتكوين الفرد المتطرف، تتناوله من مرحلة إلى أخرى، منذ نعومة حماسه وتلقائيته، حتى يشتد عود تطرفه وينفجر من شدة اليأس وقد فقد مفتاح فرج يلمع في أفقه المحدود ووعيه المسدود.

قصة من المأساة تشترك فيها أسباب متضافرة، لن يصدق أحد في مواجهتها قبل أن تأتي على كل شيء، ويكتوي بنارها القاصي والداني، ثم ننحني للحقيقة الموجعة ونتقاسم مسؤولياتنا لا أن نتقاذفها.
 

التطرف في نسخته الأخيرة لا يمكن تفسيره ومعالجته بقطرة حبر أو ضغطة زر، بل هو في حاجة إلى مناولة عميقة وجادة وصادقة

والفرد الداعشي يختلف منطق انضمامه بحسب الخلفية الجغرافية لديه، فالأوروبي يعاني جوعاً هويّاتياً تشبعه رايات داعش وادعاءاتها لنصرة المظلوم وإعادة الوهج لتاريخ الإسلام في العالم، ويواجه شعوراً بالانتقاص وموقفاً مخاصماً تجاه ازدواجيته وهو يعيش انفصالاً شعورياً في مواجهة تعوّم طبيعته المتمايزة وثقافته المتفردة في محيط مجتمعه الغربي المتلاطم، وهو -لينقذ بصمته الدينية من الإغراق الثقافي المضاد- يبحث عن موطئ قدم يغذيه ويعالج قلقه الداخلي.

وذلك العربي القادم من بلاد الوفرة الاقتصادية ليس أكثر من ترف أيديلوجي وتواضع الدور أمام واجبات متخيلة تجاه مظالم أبناء جلدته ودينه التي تحيق به من كل جانب، وهو أكثرهم استسلاماً للرواية الدينية المتزمتة لأنها المعادل التاريخي لهوان تأثيره السياسي في موطنه الأصلي.

وأخيراً العربي المطحون القادم من دول الفاقة الاقتصادية والخناق السياسي ليجد تحت رايات التطرف ملاذاته للخلاص من ضيق العيش وفتك الحياة.

التطرف في نسخته الأخيرة لا يمكن تفسيره ومعالجته بقطرة حبر أو ضغطة زر، بل هو في حاجة إلى مناولة عميقة وجادة وصادقة يتكون على إثرها العزم والإرادة لمواجهة مسؤولياتنا دون استقالة أو إمالة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.