شعار قسم مدونات

تطبيع مع المأساة والموت

blogs-الموت2

أعادنا عمران، ذاك الطفل السوري المنبعث من خراب حلب، إلى التحقق مما نحاول عبثا التنكر له: لقد تبلدت مشاعرنا، وصرنا نعيش لحظة تطبيع مهول مع المآسي وحتى الموت.
 

أمام وجه عمران المعجون بالدم والغبار يدعي العالم أنه مصدوم، ويزعم أنه غاضب من حروب بلا أخلاق بعدما تخلصت منذ زمن بعيد من إلزامية القوانين، لكنه في الواقع لا يعيش إلا لحظة من لحظات استهلاك الصورة وتجاوزها بعد ذلك نحو البحث عن موضوع آخر للاستهلاك الحسي.
 

تكمن القيمة الكلاسيكية الأصيلة للصورة المأساوية، فيما تنتجه من ردود فعل قوية تجاه الأحداث والمسببات التي كانت في أصل المشهد

يا للهول، كلما كان المشهد مأساويا تزداد الصورة عظمة، وتحوز تلك القوة المغناطيسية التي تجعلها تجتذب أكبر عدد من المستهلكين، غدت الصورة مجرد موضوع للرؤية والتفاعل الحسي المحدود في الزمان، فمنذ أن انقطع الرابط الذي يوصلها بالعقل والضمير، لم يعد هناك فرق بين صورة لغروب الشمس أو لحديقة غناء وبين مشاهد مصورة للمآسي الإنسانية.
 

تكمن القيمة الكلاسيكية الأصيلة للصورة المأساوية ، كما في حالة الطفل عمران، فيما تنتجه من ردود فعل قوية تجاه الأحداث والمسببات التي كانت في أصل المشهد، غير أنها في زمننا البئيس هذا لم تعد تنتج غير «اللايكات»، وبضع دقائق للاستنكار والتنديد، وبعدها يمضي الناس إلى معيشهم اليومي، وينصرف القتلة إلى دباباتهم وطائراتهم وقنابلهم، في انتظار صورة جديدة تشبع رغبة متجددة في الاستهلاك.
 

ولن تكون صورة عمران وافتقادها لأي تأثير في الضمير والعقل لحظة تبلد مشاعرنا الأخيرة، سيكون هناك الكثير من عمران والملايين من «اللايكات» دون أن تصحو ضمائر البشر، وليس في موقفي هذا أي تشاؤم أو عدمية، إنها الحقيقة المرة لإنسانية انزلقت إلى هاوية أن تكون مجرد تجمع بشري لا غير.
 

من يذكر اليوم صورة الطفل الكردي إيلان الذي توفي غرقا وقذفته أمواج البحر إلى الشاطئ التركي حيث وجد ممدا على بطنه ووجهه ممرغ في الرمل، ساعتها اجتاحت العالم موجة من الغضب والحزن، لكن ذلك لم يوقف المأساة السورية ولا حقن دماء السوريين.
 

وقبل عمران وإيلان، اهتزت البشرية المجردة من إنسانيتها أمام مشهد قتل الطفل الفلسطيني جمال الدرة بوحشية الرصاص الإسرائيلي، ولم يمنع ذلك العرب من أن يعيشوا حياتهم المعتادة، ولا العالم من أن يواصل سياسة الصمت المتواطئ مع إرهاب الجيش الإسرائيلي.
 

والظاهر أننا نعيش أخطر لحظات التطور السلبي لنظامنا الوجداني، حيث يصير الموت وتغذو الجثث مشاهد عادية نتفرج عليها في حواسيبنا وتلفزاتنا ونحن نتناول وجبة الغذاء أو العشاء من دون أن نشعر بالتقزز أو بوجع المعدة، أما وخز الضمير فلم نعد نحلم به، منذ أن شيعنا ضمائرنا إلى مثواها الأخير في غمرة انغلاقنا على حياتنا الخاصة واعتبار الآخر مجرد موضوع للفرجة، والتعاطف البارد في حالات أضعف الإيمان.
 

وكم كان الدكتور باسم الطوبسي مصيبا ودقيقا وهو يلاحظ أن التحولات التي يعيشها عالمنا العربي والإسلامي قد ساهمت في « خلق ثقافة تطبيع جديدة، تطبيع مع الموت المجاني وثقافة الاعتياد على التفجيرات اليومية والقصف والتدمير وثقافة رؤية الجثث».
 

بعد كل هذا التطبيع وتبلد الأحاسيس لا شيء سوى انتظار صورة مأساوية جديدة، نستهلكها كما نستهلك وجباتنا الخفيفة 

ثم حدث أن تسرب هذا التطبيع إلى تفاصيل حياتنا البعيدة عن الحروب، ومنذ سنوات وأنا ألاحظ أن المآتم صارت أقرب إلى الحفلات منها إلى لحظات عزاء، يعرض أهل الميت ألذ المأكولات وأكثرها دسامة، ويحضر المعزون مرتدين أفضل ما لديهم من لباس تقليدي، وبدلا من مقرئي القرآن تنشط المأتم فرق المسمعين التي تطرب آذان الحاضرين بكلام ملحن وموزون، وحول الموائد يغرق الناس في نميمتهم وأحاديث مشاغلهم، ولا تمنعهم قداسة اللحظة وألمها من أن يتبادلوا الضحكات كما لو كانوا في عرس صاخب.
 

وعلى شوارعنا يموت العشرات يوميا في حوادث السير التي صرنا نسميها حرب الطرقات، ولأن الشرطة اعتادت على هذا الموت المجاني مثلها مثل سيارات الإسعاف فإنها عادة ما تحضر متأخرة، تاركة المارة يتحلقون حول الجثة كما لو أنهم يحاولون إشباع نظرهم من لذة المأساة هذه، وحتى الصحف صارت تعتبر أخبار الموت على الطرقات شبه أخبار فقط، وبعدما كانت تحتل صفحاتها الأولى تقهقرت لأن تكون مجرد لقطة من بضع كلمات في الصفحات الداخلية المخصصة للحوادث المتفرقة.
 

وبعد كل هذا التطبيع وتبلد الأحاسيس، وبعد إدماننا على مشاهد الجثث والمآسي، ما الذي ينتظره منا عمران أو إيلان أو جمال؟! أقصى ما قد يقدمه لهم أكثرنا رهافة دمعة منفلتة على الخد، وعدا ذلك لا شيء سوى انتظار صورة مأساوية جديدة، نستهلكها كما نستهلك وجباتنا الخفيفة ونمضي إلى حال سبيلنا مثلما يمضي موتانا إلي مثواهم الأخير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.