شعار قسم مدونات

في الموت

blogs-الموت
لم أفهم يوماً أولئك الذين لم يُفكّروا يوماً بالانتحار، أولئك الذين لم تندفع عروقهم نحو نهاياتها القصوى صارخة وغاضبة في وجه الحياة: من أنت؟
 

دائماً ما يُمكن وصفُ الانتحار بأنّه قرار متسرّع، متسرعٌ لأنك يمكن دوماً أن تؤجّل انتحارك خمس دقائق، أن تبقى منتظراً خمسَ دقائق إضافيّة، ربما يُشرق شيء ما؛ داخلك أو خارجك، ومتسرعٌ لأنك تكون قد أغلقت القوس بنفسك على نفسك، تاركاً خلف القوس حياةً لا تكفّ تجاربها عن التجدد ولا تنتهي احتمالاتها.
 

لا يمكنُ أن نمتلك الوعي بالشيء دون الوعي بنقيضه لا الوعي بالإيمان دون الشكّ، ولا بالحبّ دون احتمال الفتور ولا بالإرادة دون احتمال أن نكون سائرين في الاتجاه الخطأ

أنحاز أنا لهذا الانتظار المفتوح على العالم؛ خمسُ دقائقَ إضافيّة دائماً، وأبكي لأولئك الذين تركوا مكانسهم وراحوا ( كما يقول زياد). ولا أفهم أولئك الذين لم يُواجهوا يوماً هاته الدقائق الخمسة، كيف يُمكن أن يأخذوا حياتهم بجدّية وهم لم يأخذوا الموت على محمل الجد؟
 

لا يمكنُ أن نمتلك الوعي بالشيء، دون الوعي بنقيضه.. لا الوعي بالإيمان، دون الشكّ، ولا بالحبّ دون احتمال الفتور أو الانهيار، ولا بالإرادة دون احتمال أن نكون سائرين في الاتجاه الخطأ.
 

وكذلك لا يمكن أن تنهض حيواتنا الفرديّة من تفاهة كونها كتلاً لحميّة تعبر فوق حزام أوتوماتيكي ناقل في مصنع كبير، إلا بالنظر الشاخص إلى وجه الموت، الذي لا يقبع هناك في البعيد، بل يستقرّ هنا في الزوايا العمياء، أسفل أنوفنا وخلف آذاننا وتحت ذقوننا.
 

يتهرّب البشر من التفكير بالموت ليحافظوا على سعادتهم، هكذا يخبرني باسكال.. ولكن، أية سعادة هذه التي يمكن أن تتقشّر بضربة واحدة من ضربات القدر، لتنكشف عن لبّ منخور وثمار متعفّنة؟ أية سعادة هذه التي تنكسر ساقُها مع أوّل هبّة ريح آتية من الضفّة الأخرى؟ أهي سعادةٌ جديرةٌ بأن تُعاش؟
 

لقد بنى سقراط فلسفته كلّها على أنّ ثمة تواطؤاً ما بين الفضيلة والسعادة، وبين المعرفة والسعادة، ومع كلّ تلك المطارق التي فتت رأس الحكمة السقراطيّة، إلا أنّ مشهد موت الحكيم بقي مشهداً مؤسساً لحكمة لا تهاب الموت، لحكمة تجرع السمّ بكفّيها، تتمشّى في الغرفة ريثما يأخذ السمّ مفعوله، تسأل تلامذتها ألا ينوحوا كالنساء، ثم تقول لأقريطون "إننا مدينون بديكٍ لفلان، فلا تهملوا في أدائه"، ثمّ تواجه الموت بغطاء يحجب عن وجهها وجه الحياة، وبعينين مفتوحتين وهادئتين، تحت الغطاء، تترقّبان اللمحةً التي سيُطلّ فيها وجه الموت.
 

انشغلت الفلسفة والحكمة والتصوّف بمصالحة الإنسان مع موته الشخصيّ.. هذه المصالحة التي تقوم على أنّ الوعي بالحياة لا يتحقق ولا يكتمل إلا بالوعي بالموت.. فالموت، موتنا، ليس محض مفاجأة مؤجّلة أو حدثاً ختاميّاً، بل هو مخبوء في ثنايا وجودنا المشدود بين خيط المهد وإبرة اللحد، وهو الحتميّة الوحيدة التي ظلّت تُذكّر الإنسان، منذ فجره وإلى قيامته، بمحدوديّة وجوده الشخصيّ وبهشاشة تكوينه، بحقيقة كونه عابراً وزائلاً وهامشيّاً في دفتر التاريخ
 

مهما تقنّع بأحلام الخلود وتزيّى برغائب المجد. وسواءٌ أكانت نهايات الجسد اللحميّ منذورةً للتراب أو مبثوثةَ الرماد في الريح أو متروكةً لأنياب البرّ أو البحر، فإنّ اختلاط الجسد بعناصر الحياة الأولى يبقى تذكيراً لنا بمدى رعونة فكرتنا عن ذواتنا الفرديّة التي نحرسها ونسيّجها بالأنانيّة ونضرب حولها الأسوار لنحميها من الأعداء، فيما نختلط بعد هذا كلّه في أجساد لا نعرفها وتتحوّل ذراتنا، ربما، إلى زهرة برتقال فوق تلّ، أو خلّية في جسد حوت، أو إلى عتبة باب أو زجاج ملوّن لحضانة أطفال، وربما إلى قطرات مشتعلة من البنزين في سيارة ذاهبة إلى التخييم في الصحراء.
 

"موتوا قبل أن تموتوا"، يُروى هذا الأثر المنسوب للنبيّ كفاتحة لأبواب التزكيّة، فالتصوّف، في أحد جوانبه المهمّة، إماتة للنفس، بحرصها وغرورها وأنانيّتها، وصهر لرغباتها الفرديّة في نار المحبّة الأولى، حتى يعود الصوفيّ إلى "كان الله ولم يكن معه شيء"، فليس غريباً إذاً أن تطفو روح الحلاج فوق الصليب أعلى وأعلى مما يُصيب البشر من رجفة وخوف في حضرة الموت المجهول، فيضحك في وجه قاتليه ويبكي لدقائق المعاني في وردة رماها الشبليّ بين قدميه، غافراً لقاتليه ما لا سبيل إلى الغفران بعده .
 

دوماً ما كُنت مأسوراً بتتبّع اللحظات الأخيرة للأرواح العظيمة، وكنتُ وما زلت أعتقدُ بأنّ هذه اللحظات هي الكاشف الأهمّ عن المعدن الحقيقي للإنسان

وليس غريباً أن يُسرّع ابن سبعين، فيلسوف الوحدة الثاني، من تدابير القدر وصروفه، فيقلب الصفحة قبل أوانها، ولا أوان عنده، فيفصد ساعديه ويُصفّي دمه في جوار الكعبة.
 

كثيراً ما يُقدّم لنا الأدب والسينما صورة اكتشاف الإنسان لقيمة حياته لحظة الموت، سطوع الأجوبة التي انتظرها طويلاً، واكتشاف الحياة التي كان ينبغي أن يعيشها: ميرسول بطل "الغريب" لألبير كامو يكتشف ذلك في السجن قُبيل إعدامه، والعجوزان؛ الثري إدوارد والميكانيكي كارتر يكتشفان ذلك حين يُصابان بالسرطان في "The Bucket List".
 

الأمثلة كثيرة والاكتشافات المنبثقة عن تلك اللحظة كثيرة كذلك. على أنّ التصالحُ مع الموت، ليس موتاً بمعنى الخمود المطلق والركون إلى زاوية العيش الزهيد، ولا هو موت الرغبات وتلاشي الأمنيات بالضرورة، بل يمكنُ أن يكون أحياناً إدراكاً معمّقاً لقيمة الحياة، واندفاعةً قصوى نحو ما هو مهمّ فعلاً ونحو ما يستحقّ أن تُعاش الحياة لأجله أو به. وهو دائماً تحررٌ من التفاهات التي يقضي البشر أعمارهم في ملاحقتها دون أن يعرفوا لماذا، وتحرر من كلّ ما يُملي على الذات إرادته دون مُساءلة أو اختيار، أليست هذه هي حكمة المحكوم بالإعدام : " لا أشياء أملكُها فتملكَني ".
 

دوماً ما كُنت مأسوراً بتتبّع اللحظات الأخيرة للأرواح العظيمة، وكنتُ وما زلت أعتقدُ بأنّ هذه اللحظات هي الكاشف الأهمّ عن المعدن الحقيقي للإنسان؛ أحفظ الكلمات الأخيرة لهادي العلوي وهو يدخل إلى غرفة العمليات، وكلمات محمد إقبال المبتسم في سريره الأخير، وما زلت مغرماً برسالة سيد قطب الأخيرة من سجنه؛ " أفراح الروح"، ولا شيء في محمود درويش يشدّني كالقصائد الأخيرة " لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي"، ولا أظنّ أنّ أحداً تمرّس على موته كما فعل درويش منذ موته الأول في الجدارية، لولا طموحه اللا ينتهي للمجد.
 

وفي كلّ تلك المشاهد كان الموت والحياة يبدوان لي وجهين محفورين على باب واحد، نظنّه جداراً لفرط هوله، ثمة أكوام بشريّة تستعيذ كلما مرّ على مسمعها حسيس الموت، مذعورةً من المحتوم الأزليّ
 

ثمة مجموعات مجنونة اليوم تركض إلى موت مجانيّ دون أن تعرف ما تعنيه الحياة أصلاً، ولكنّ تلك الأرواح العظيمة كانت دائماً تجلس على عتبة الباب محدّقة في مسيل خفيّ يعبر تحت الباب من ضفةٍ لضفّة، منصتة لموسيقى الخرير الأبديّة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.