شعار قسم مدونات

أسرار القرآن

blogs-قرآن

قبل أن أدرك الظاهرة القرآنية بصورة واعية في وقت متأخر من عمري كنت في صباي قد كونت عنها فكرة مثالية لا تخلو من السذاجة.
 

وكان من سمات تلك الفكرة أن المدونة القرآنية لا بد أن تحتوي أسراراً وغرائب مدهشة، لم أكن أعرف بالضبط ما طبيعة تلك الأسرار التي ينبغي أن تتضمنها المدونة، غير أن خاطراً ما في نفسي كان يقول إن المدونات العظيمة لا بد أن تخبئ للناس أموراً عظيمة.
 

مع تقدم العمر والخبرة تأكد لي بالتفصيل ما كنت أعتقده بالإجمال، فالقرآن كتاب لا يخلو من الأسرار والمفاجآت، وبعيداً عن الجدل القائم بين المؤمنين وغير المؤمنين بالكتاب حول أصالته أو عدم أصالته، فإن القرآن لا يزال قادراً على إدهاش قارئه الجاد واللحوح، كلوحة فنية عظيمة لا تنفد أسرارها، أو كمغارة كبيرة لا تنفد كنوزها.
 

كل ما يحتاجه القارئ هو خارطة طريق صحيحة للوصول، ويبدو أن التاريخ هو أهم خط في خارطة الطريق تلك. إذ يبدو القرآن وكأنه منخرط في مناظرة طويلة – بلغة الشفرة – مع التاريخ الديني تحديداً لا يفهمها إلا من كان له حظ واهتمام بالمجالين.
 

كانت تدهشني تلك الطريقة التي يتبعها القرآن في فك بعض أسرار التاريخ الديني، حين يكتفي بالإشارة إلى حقيقة تاريخية بلفظ واحد ملغز، أو بعبارة غير مفهومة المغزى للوهلة الأولى.
 

يبدو القرآن وكأنه منخرط في مناظرة طويلة -بلغة الشفرة- مع التاريخ الديني تحديداً لا يفهمها إلا من كان له حظ واهتمام بالمجالين

كأن يذكر بشارة عيسى عن محمد بلفظ "أحمد"، أو يذكر مكة في موضع محدد بلفظ "بكة"، أو يذكر اسم والد النبي إبراهيم (آزر) مخالفاً لاسمه في التوراة (تارح)، أو يتحدث عن شخصية لم تذكرها مصادر التاريخ الكلاسيكية وأثبتتها التنقيبات الآثارية، كشخصية هامان المصري، أو يتحدث عن واقعة لا يجد القارئ لذكرها مبرراً على مستوى النص، كواقعة "غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون".
 

بهذه الطريقة كان القرآن يستفزني للبحث عن السر الكامن وراء هذه العبارة أو تلك اللفظة، وأضطر في سبيل ذلك لمحاولة التعرف على لغات قديمة كالسريانية والمصرية القديمة، والكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، وعلى تواريخ حضارات قديمة كالحضارة المصرية القديمة والحضارات السامية القديمة. وكثيراً ما كنت أصل إلى مبتغاي أو إلى قريب منه. وفي كل الأحوال فقد كنت أعود بفوائد معرفية غير مقصودة.
 

كان المعطى التاريخي يخبرني – مثلا – أن المسيح عيسى كان يتحدث الآرامية، وهي لسان قومه آنذاك، فيخطر ببالي أن "أحمد" هو المنطوق الآرامي لكلمة محمد، مثلما أن "حمادا" هي المنطوق العبري للكلمة نفسها، وقد أراد القرآن الإشارة إلى حقيقتين بذكر اللفظ الآرامي، أولاهما أن إنجيل عيسى – أي بشارته – ليست سوى التبشير بمجيء النبي الخاتم المنتظر. والأخرى أن أنجيل عيسى الحقيقي كان باللسان الآرامي، لا باليوناني الذي كتبت به الأناجيل القانونية، ولا بالعبري الذي كتب به العهد القديم، وفي هذه المعلومة الأخيرة مغزى مقصود هو التأكيد على ضياع البشارة الأصلية.
 

وأعتقد أن لفظ "بكة" ربما أشار إلى حقيقتين تاريخيتين الأولى أن مكة قد أخذت اسمها من البيت الحرام الذي كان يسمى في زمن إبراهيم "بك"، وهذا الأخير لفظ آرامي أيضاً، فالبك هو البيت في الآرامية – ومنه بعل بك أي بيت الإله بعل – وهو ما يتوافق تماماً مع حديث المؤرخين عن أن لغة إبراهيم عليه السلام كانت الآرامية. ويعزز ذلك ما رواه الأزرقي – صاحب تاريخ مكة – عن عثور القرشيين على نقش حجري في أساسات الكعبة يذكر هذا الموضع بلفظ بكة.
 

ونلحظ أن لفظ بكة ورد في آية قرآنية تتحدث عن "أول" بيت وضع للناس (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ)، فقد ناسب أن يذكر لفظ بكة لا مكة ما دام أن الحديث سيعيد المخاطب إلى نقطة زمنية متقدمة، هي تلك اللحظة التي قام فيها رجل آرامي يدعى إبراهيم ببناء البيت.
 

ووصلت إلى رأي في أن اسم "تارح" والد إبراهيم الذي ورد في التوراة هو نفسه "آزر" الذي ورد في القرآن، لكن بعد تحولات صوتية عديدة ومفهومة لدى علماء الصوتيات. ويمكنني تقريب التطور الصوتي الذي طرأ على كلمة آزر بصورة مبسطة على النحو الآتي: تارح من تاره، وتاره من ثرى، وثرى من آثر، وآثر من آزر. وهو تحول ممكن في قانون القلب والإبدال بين الأصوات ذات المخارج المتقاربة.
 

ويعزز هذا الاستنتاج توافقه مع معطيات تاريخية متعلقة بإبراهيم النبي، منها نشأته وأسرته في غور كلدان بجنوب العراق، في حدود القرن 19 قبل الميلاد.
 

وقد عرف الكلدانيون بأنهم من عباد النجوم والأصنام، وهو ما أشار إليه القرآن من بعيد في قصة إبراهيم مع الكواكب. ويقول غلين دانيال (كتاب الحضارات الأولى.. الأصول والأساطير، كتاب دبي الثقافية اغسطس 2009) إن كلمة "كلدانيين" في سفر دانيال ولدى هيرودوت وسترابو وديودروس تعني "الفلكيين المنجمين".
 

والمعطى التاريخي هنا هو أن كلمات ثرى وثريا وذرا وتارا تنتمي لحقل الفلك في اللغات السامية. ومن المنطقي تماماً أن يكون اسم والد إبراهيم (آزر / تارح) اسم نجم من النجوم التي كان يعبدها أبوه وجده.
 

تلك نماذج عابرة من أسرار قرآنية تحتاج إلى نقاش علمي مطول لم أجد له وقتاً كافياً، وخشيت أن يذهب مع ما ذهب من الذاكرة في زحمة همومها وأشغالها المتقلبة.
وللحديث بقية عن سر آية الروم في مقال القادم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.