شعار قسم مدونات

صوفية بوتين وسلفية حفتر

Blogs-puten
 
اربع على نفسك..
لا تنزعج!

إياك أن يسبق إلى لسانك دون تفكير "أفنجعل المسلمين كالمجرمين، مالكم كيف تحكمون"؟!.
 

لا تتردد في أن الإضافة تفيد التعريف نحويا، كما أنها تحصل بأدنى سبب منطقيا، فكيف إذا كانت كاشفة لأزمة!.
 

تدري أن لكل فكر مدعيا، وأفعاله تصدقه أو تكذبه، لذلك قال الصوفي الصادق البوصيري:
والدعاوى ما لم تقيموا عليها *** بيناتٍ أبناؤها أدعياء
 

قبل أيام عقد مؤتمر قيل إنه للصوفية هناك في غروزني عند أبي رغال المتصوف لا الصوفي، وحضره منهم شيخ الأزهر ومفتي مصر السابق وغيرهما من أصحاب الذكر

الصوفية زهد وتقشف وتحنث وتبتل وترق في مدارج السالكين، ذلك تعريف، أو قل توصيف من بطون الكتب، وليس شرطا أن يطابق الوقائع أو يصدق المدعين.

 

كما أن السلفية منهج يقوم على التجديد في مفهومه الواسع بالرجوع إلى الوحي علما وعملا، وتجاوز التقليد والركون والركود إلى آفاق السلف فهما وسمتا.
وبين النهجين آصرة تقوى وتضعف منذ قرون الإسلام الأولى.
 

فالتصوف شكل حالة ثقافية مبكرة في حركة الإسلام واستطاع مع مرو الزمن أن
يتحول إلى حالة اجتماعية أو لنقل "حركة اجتماعية" بمنطق علم الاجتماع الحديث. ففي قرن التدوين تلازم التصوف والحديث، فمنذ أن كتب الحارث المحاسبي (المتوفى 243) رسالة المسترشدين أيام تدوين العلوم الإسلامية، برز الخلاف بين بعض الصوفية وبعض أهل الحديث وأهل الفقه، مجسدا في موقف الإمام أحمد بن حنبل من الحارث وحوارييه، وظلت حالة التلاقي أو التلاغي تتجدد أو تنحسر حال أي شد فكري في أي مجتمع.
 

لكن الحنبلية ستحتضن الصوفية ممثلة في عبد القادر الجيلاني، ثم في كتابات ابن القيم، ورغم تضرر شيخه ابن تيمية منهم، فقد أثنى على شيوخ من القوم وافقهم هديا ونهجا ولم يجد في سلوكهم غضاضة لديه.
 

كما مثلت السلفية عبر التاريخ حالة من الدفع المستمر عن الأمة فكرا وأرضا، والدعوة لتجديد الدين فهما وتطبيقا.
 

وكان في بعض الصوفية بعض تعلق بالسلفية والعكس، وهو أمر يبحثه المتخصصون في أبواب العقائد والفقه والسلوك وليس مجال حديثنا.

لا علينا..

لننظر في واقع الحال تصديقا أو تكذيبا، فالقانون كما الفقه يعلمنا أن الوقائع لا تنحصر، وأن مسعى الاجتهاد الصحيح القويم هو تنزيل القاعدة أو النص على الواقعة أو الوقائع المتجددة.
 

الأمر في التصوف أصعب لأنه بحث عن مطابقة الهوى وكل الخطرات للشرع في كل جزئياته فضلا عن أساسياته.
 

لننظر في واقع الحال تصديقا ومطابقة أو تكذيبا ومباينة.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أحد أصدقاء إسرائيل الصادقين، وهو من تولى قمع أشواق الجمهوريات الإسلامية في القوقاز للاستقلال ودمر الشيشان على رؤوس أهلها وترك غروزني أثرا بعد عين.
 

بعد اندلاع الثورة السورية هب بوتين مع حلفائه من شيعة إيران لنصرة النظام السوري فدك المدن على رؤوس صوفييها من جميع طرقهم ومسلميها من جميع مذاهبهم، وشرد وقتل أطفالهم ورجالهم ونساءهم.
 

قبل أيام عقد مؤتمر قيل إنه للصوفية هناك في غروزني عند أبي رغال المتصوف لا الصوفي، وحضره منهم شيخ الأزهر ومفتي مصر السابق وغيرهما من أصحاب الذكر.
 

هذا الرجل متصوف على ما يبدو، فقد تجمع لديه بعض المتصوفين مؤتمرين، وفعل الحال المعاين يفيد بأنه متصوف من لبس الصوف في برد تلك البلاد، وزاهد من الزهد في العلاقة الإيجابية بالمسلمين وزاهد في حياتهم وأرواحهم.
 

ويبدو أن من حضروا إليه مهطعين، زاهدون أيضا في التعاطف مع السوريين الصوفيين وغيرهم، فهم معه في فعلته لا بدليل لازم الحضور ائتمارا، بل لأنهم لم يتكلموا عما يحدث بل أثنوا على جهود بوتين وشدوا على يديه معتبرين منهجه صحيحا في "مكافحة الإرهاب".
 

كما أن هؤلاء زهدة في التعاطف مع ضحايا الاستبداد، ومتحنثون عن أي موقف عام ينصف الناس، وهم يترقون كذلك في مدارج المناهضين لأي عزة، منافحين عن كل ركون وركود، فهم مع سياسة "التسكين" لأن صاحبه يقتل مستسلما، ومع "الترشيد" لأنه يعني قبول القتل دون عنف، تقسيطا كان أو بالبراميل وطائرات الروس أو غير ذلك، المهم أن لا يشغل الناس عن التسكين والترشيد.
 

فلنقبل إذن أن بوتين متصوف، ونرحب بذلك ونكل القوم من متصوفة لا شك فيهم إلى فعلهم وما صدر قطعا عنهم في حال من العقل والصحو، لم تلتبس بسكر ولا محو.
 

معذرة..
ما علاقة ذلك بصاحبنا حفتر؟
 

حفتر سلفي لأنه يريد العودة بليبيا إلى نهج سلفه القذافي، يفوض في أسمائه وصفاته بل يمررها على الحقيقة، فهو يرى الانقلاب ثورة اقتداء بسلفه واتباعا لمنهجه

لنتذكر أن ضابط القذافي المهزوم أواسط الثمانينيات في تشاد، والمهاجر إلى رحاب الاستخبارات الأميركية عاد مع نذر الثورة على القذافي ساعيا لخلافته.
 

وكانت فرقة الجامية المتسلفة ضد الثورة على القذافي لأنه ولي أمر، ثم جاء هذا الضابط محاولا الانقلاب على نظام انتخبه الناس، ففشل، فخاض حربا بدعوى مواجهة الإرهاب لم تلبث أن استقطبت جاميين، فأعلنوا وجوب القتال معه لا لأنه متغلب واجب الطاعة، ولا باعتباره إماما اتفقت عليه الجماعة، بل لأن سلفي بمفهوم الزمن.
 

حفتر سلفي لأنه يريد العودة بليبيا إلى نهج سلفه القذافي، يفوض في أسمائه وصفاته بل يمررها على الحقيقة، فهو يرى الانقلاب ثورة اقتداء بسلفه واتباعا لمنهجه، ويرى الديمقراطية وخيار الشعب تدجينا وخيانة.
 

عد القوم انقلاب حفتر على شرعية الثورة الديمقراطية "درءا لمفسدة مذهب ضال هو الديمقراطية، وجلبا لمصلحة سلفية قريبة المنبع". فحملوا أسلحتهم دفاعا عن المنهج في وجه بدعة تجعل أمر الناس شورى بينهم، بآلية صناديق الاقتراع لا صناديق الموتى والسلاح.
 

لما انقلب السيسي على رئيس منتخب أيده متصوفة مصر وقطاع من متسلفيها، فهو الآخر منتصر لسلف قريب عند هؤلاء، ويستحق التأييد ضد من جاءت بهم بدعة صناديق الاقتراع "فمذهب السيف مذهب قديم"، وهي مقولة تقتضي الخضوع لحَمَلَته في فهمهم، لا حمْله لإحقاق الحق. وهكذا فنازلة السيسي متطابقة مع نازلة حفتر وتستوجبان الحكم نفسه.
 

لا علينا من كل ذلك..

نحن العامة رأينا كيف اجتمع متصوفة عند بوتين، وخلعوا عليه جبة الصوفية وعمة الأشعرية، كما رأينا انضواء متسلفة مصريين وليبيين من مذهب الجامي تحت لواءي حفتر والسيسي، فالنوازل تتشابه والقاعدة لديهم أن من له "سلف قريب" أولى من غيره ولو كان مؤمنا معروف الإيمان.
 

لا علينا..

فما زال يساريونا ينافحون عن أن سقوط الاتحاد السوفياتي لا يعني فشل الفكرة الشيوعية، وما زال ليبراليونا يقصرون ليبراليتهم على السلوك الاجتماعي، وينأون بها عن الحرية السياسية وحوكمة السلطة وقواعد حرية السوق المنافية للاحتكار والاستبداد.

والطرفان يتهماننا بالقصور العقلي والتكلس الفكري وعدم استيعاب مقتضيات حركة التاريخ.
 

علينا إذن من باب المماثلة أن نقبل متصوفة في صف بوتين، ومتسلفة في جيش حفتر، بل أن نقبل صوفية الأول وسلفية الثاني، وعندها لن نغضب لأن مؤتمر الأول يجزئ أهل السنة، وأن جماعة الثاني تقسم الجماعة، فمرحبا ببوتين متصوفا وبحفتر متسلفا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.