شعار قسم مدونات

عن عاصفة "مداجن دينية سورية تفرخ في إسطنبول"

blogs - turkey

هل أثبت الاهتزازُ -السلبيُّ والإيجابيُّ- أمام تدوينةٍ أن ثمَّةَ خللًا لا بدَّ مِن تداركه وإلا…؟!
 

بعد أن هدأت العاصفة التي هيَّجَتْها تدوينةُ "مداجن دينية سورية تفرِّخ في إسطنبول"؛ يَلُوح خلف زمجرة ريحها وأزيز مطرها أسئلةٌ عميقةٌ، أخرجَتْها الكلماتُ من قلوب شتى، وأرَتْنا واقعًا كنَّا نظن أننا بلَغْنا كُنهه، لنكتشف أنَّ الأمرَ أعقد، والمصيبة أعمق، والطريق أشدُّ وعورةً، كما أثبتت ردودُ الفعل في الاتجاهين أن التغيير ممكن، وأن الكلمة هي المبتدأ، والحق هو الخبر، ومنهما تتشكَّل الجملة المفيدة في هذا الكون التائه، ألا وهي "الإنسان" الذي هو القيمة الكبرى التي جاءت الشرائع كلها لتكريمه وإعلاء مكانته بالعقل والحرية والإرادة.
 

من أعجبِ العجبِ أن يُقرَّ شيوخٌ كثر من القائمين على هذه المعاهد والمدارس بوجودِ الكارثةِ لكنَّهم يرفضون الحديثَ عنها في الملأ.

إن التعامل مع النقد الغيور المغلَّف بصرخةِ نذيرٍ على أنه تهجُّمٌ، وكُفرٌ بالتُّراث وأهله، ورجال العلم وعِلمهم، ثم المسارعة بالنزول إلى المَيدان، وإشهار السيف، وتسليط الأتباع على الناقد للنَّيلِ مِن شخصه، ورميه باتهاماتٍ خُلَّبيةٍ جاهزةٍ وَرِثَتْها العقول من النِّظام البعثي، وللتشكيك بنواياه التي نهى عن التفتيش عنها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ إنما هذا كله التفافٌ على المراد، وهُروبٌ من مواجهة الفكرة، وتحريفٌ للكَلِم عن بعض مواضعه.
 

فـالنقد كما قال صاحبُ أوهام النّخبة: "يسفر عن إمكانات جديدة للوجود والحياة بسبر مناطق مجهولة، أو استحداث آفاق جديدة للفكر والمعنى، أو إقامة صلات متغايرة مع العالم لتحقيق مزيد من الفهم والحضور والفاعلية".
 

إذن؛ فالنقد لا يستهدف الشخوص الحقيقيِّين والاعتباريِّين كما قد ظُنَّ، وإنما توجَّهَ إلى ما يصدر عنهم من سلوكيات وآليَّاتٍ تربويّةٍ وأساليبَ تعليميّة، اتَّضح أنّها ما عادت تصلح لهذا الزمان، والخلطُ بين انتقاد الشّخصِ وسلوكِه معضلةٌ قد آن تجاوُزُها.
 

كذلك لا يعني النقدُ التلويحَ بفزاعة السقوط أو الاستبدال أو الإقصاء، ولكنَّ ردَّ الفعل الهائجَ في التعامل مع النقد يُنذر بكل هذا!
 

ومن أعجبِ العجبِ أن يُقرَّ شيوخٌ كثر من القائمين على هذه المعاهد والمدارس والمؤسسات في حواراتٍ خاصَّة بأنَّهم مقتنعون بوجودِ الكارثةِ، بل إنّهم يعلمونَ أضعافَها، لكنَّهم يرفضون الحديثَ عنها في الملأ، وهذا يستدعي الحاجةَ إلى ضرورة فهم المتغيِّراتِ في عالمِ الفضاء المفتوح الذي ما عادت سياسةُ إخفاء العيوبِ فيه بنافعةٍ، بل النَّافعُ فقط هو الوقوفُ مع هذه المشكلات وجهًا لوجه، وبذلُ الوسعِ في حَلِّها، ومحاولة التغيير بدل انتهاج سياسة الأنظمة التي لم تتعلّم من تجارب الشعوب؛ فإنها سرعان ما تهاجمُ المنتقدين لها بأنهم مُندسُّون، وعملاء للصهيونيّة، ومنفذون لأجنداتٍ خارجيّة، فإذا انتهج بعض المشايخ العاملين في هذه المعاهد والقائمين عليها الأسلوب ذاته؛ فأيُّ خيرٍ يُرتجى وأيُّ إصلاحٍ يُبتغى إذن!
 

كما أنَّ من أخطر صور المصادرة للآراءِ الحجرَ على من رأى مشكلةً أن يطرحها إلَّا إن يأتى بحلها معها، وهذا – لعمري – ما لا يلزمُ به منطقٌ عقليٌّ، ولا قاعدةٌ علميَّةٌ، ولا عرفٌ اجتماعيٌّ؛ فقد يكونُ الهدفُ من الطرحِ إثارةَ الانتباه إلى مشكلةٍ تَجاهَلَها أصحابها، فيكون طرحُها صرخةً ممن عاينَها وعاشَها واكتوى بنارِها، للقائمين بها وعليها؛ ليُفيقوا، ويراجعوا حساباتِهم، ويقفوا وقفةً إصلاحٍ وتداركٍ قبلَ أن يتركهم الزمان خلف ظهره.
 

ثم إنه لا ينكرُ أحدٌ بأنَّ ثلَّةً من هذه المعاهد قدَّمت خيرةَ أبنائها شهداءَ في سبيلِ نيل حريَّتهم وكرامتهم، ولكنَّ الانتماء الثوري لأبناء هذه المدارس ولبعض القائمين عليها – ولا يزال كثيرون مؤيِّدين في الداخل أو رماديِّين متذبذبين في الخارج- لا يعطي الكِيانَ كلَّه تزكيةً في أسلوبه التربويّ وآليَّات التعليم عنده
 

كما أنَّ الانتماء للثّورة عمومًا لا يعطي صاحبه حصانةً ضدَّ النّقدِ، بل إنَّ هذا الانتماء يحمِّلُ صاحبَه مسؤوليةً كبيرةً في مواكبةِ ما تُفجِّره الثّوراتُ من احتياجاتٍ فكريّة ونفسيّة عند الشباب، لا تصلح معها الوسائل القديمة التي يرى الشباب كثيرًا منها من موروثات واقعٍ نبذوه وثاروا عليه.
 

على أنَّ التدوينةَ ناَقشت النتاج التربويَّ السلوكيَّ للآليّات التي لم تلقَ تجديدًا ولا تغييرًا، رغم ما شَهِدَتْه البلاد من تغييراتٍ جوهريّة.
 

وإنَّ حجمَ الصّدمة التي تلقّاها الشباب من ردّ فعل بعض المشايخ، وما صدر عن فئةٍ منهم من إسفافٍ عجيبٍ كفيل بأن يَنصرف الشّباب عن هؤلاء، ولكنَّ ما لا نرضاه أن ينفضَّ الشباب عن العلماء بسوء صنيع بعضهم، بل إنَّ ما نطمح له هو أن يهُبَّ العلماء الحقيقيون والدعاةُ المخلصون إذا سمعوا صرخةً تردَّد صداها في الآفاق؛ فإن الصرخة لا تهدم، بل الذي يهدم شيخٌ مارسَ التشبيحَ وأغرى طلابه به؛ فكانَ دليلًا صارخًا على صحّة ما أثبتته التدوينة مِن خَلَل في المنتج السلوكي والتربوي لبعض هذه المعاهد والمؤسسات.
 

ينبغي البدء بمناقشاتٍ جادّةٍ وشاملة تهدف إلى تضييق الهوَّة بين الشّباب والدّعاة، وإلى إحداث تغييراتٍ إصلاحيّةٍ تشمل الآليّاتِ التعليمية 

وفي ردود الفعل جميعها، السلبيِّ منها والإيجابيِّ، حالةٌ إيجابيَّةٌ ينبغي أن تَدفَع المخلصين الغَيارى من بعض القائمين على مؤسسات التعليم الشرعي -لا سيما تلك التي تنشأ حديثًا في تركيا عمومًا، واسطنبول على وجه الخصوص- والمخلصين الغيارى من العلماء المتخصصين في التربية وتطوير آليات التعليم
 

هؤلاء الغيارى الذين لا يشملهم بالضرورة ما ورد في التدوينة إذ إنه ينطبق فقط على من قبلوا على أنفسهم أن يربوا شبابا لا يرى خارج عباءتهم وقبلوا على شبابهم أن يكونوا مُدَجَّنِينَ لا صوت لهم ولا قدرة على التفكير خارج السور الذي ضربوه على عقولهم؛ ينبغي أن تدفعهم غيرتهم الصادقة وحرقتهم على الشباب إلى البدء بمناقشاتٍ جادّةٍ وشاملة تهدف إلى تضييق الهوَّة بين الشّباب والدّعاة، وإلى إحداث تغييراتٍ إصلاحيّةٍ تشمل الآليّاتِ التعليميَّةَ، وتوسيعَ المناهج؛ لتشمل علوم الحياة والعلوم الاجتماعية والإنسانية، ورَصدَ الأسئلة الحائرة التي فجّرتها سنواتٌ من الأزماتِ المتلاحقة، وَوضْعَ المناهج التي تجيب عنها بطريقةٍ مقنعة .
 

وهذا طبعًا لا ينفي أن التراث وما فيه من علوم فقه واعتقاد وحديث وتفسير وغيرها ضرورة لا بد من الحفاظ عليها مِن أجلِ بناء طالب العلمِ المتمكِّن؛ وإذا عدَدْنا الهجماتِ الشرسةَ عليه هجماتٍ مشبوهةً يُراد منها الهدم لا البناء؛ فإن الجمود في تفاصيليه مع تبدُّل الأزمان والأفهام إساءةٌ له لا تقل عن الهجوم عليه؛ إذ المطلوب من أجل الحفاظ على التراثِ العملُ الجادُّ على إيجاد منهجية إصلاحية في طريقة عرضه وتقديمه، تجمعُ بينَ أصالةِ المعلومةِ ومعاصرةِ العرض.
 

وإنَّ ما جرى في أيّامٍ مضت من جَورٍ وُوجِهَتْ به الكلمةُ الجريئةُ لَيزيدُني يقينًا بحجمِ المصائب المتغلغلة في أعماق كياناتٍ نغارُ عليها، مما يدفعنا إلى تسليط الضَّوء على أدرانها، كما يزيدني إصرارًا على متابعةِ الطريقِ -في معيّة الله تعالى- بريقُ البحثِ عن الحقيقةِ في أعينِ شبابٍ متروكٍ وحده في ساحاتِ التّيه، حتّى إذا صرخَ من وجعٍ رُمِي بأقذع الصِّفات وكأنَّه خَرَج من عباءة الإسلامِ، والأمر لا يعدو كونه قدخَرَج من عباءَة التقديس للأشخاص الحقيقيين والاعتباريين؛ فرأى ما يجعل الحليمَ حيرانَ!

فعلى طريقِ الإصلاح ماضون بإذن الله تعالى، ولنا بشعيب عليه السلام أسوة حسنة إذ {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.