شعار قسم مدونات

اللاجئون السوريون و"ما بينية" الهوية

اللاجئون السوريون ومابينية الهوية
جلست في رحلتي من بودابست إلى إسطنبول إلى جانب زميلة تركية من جامعتي لم ألتق بها إلا مرة تقريبا خلال العام الدراسي، أثناء حديثنا عن أوضاع اللاجئين السوريين في تركيا ذكرت لي أن أصولها عربية من جهة والدها السوري الذي انتقل للعيش في أضنة منذ فترة طويلة وتزوج من تركية.

عندما سألتها عن درايتها باللغة العربية إلى جانب لغتها الأم قالت لي إن والدها نسي اللغة العربية منذ زمن طويل، وذكرت لي أيضا أن عمتها تخلت عن مذهب الطائفة العلوية الذي تدين به العائلة وباتت تدين بالمذهب السني، وهو المذهب الذي يدين به غالبية الشعب التركي، وعندما سألتها عن المدينة السورية التي ينحدر منها والدها وعائلته قالت لي إنها لا تعرف تحديدا.
 

سؤال الهوية في حالة السوريين المقيمين في تركيا أكثر تعقيدا وإشكالية نظرا للروابط الجغرافية والثقافية بين الشوام العرب والترك

في الوقت الذي أعلن فيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس وزراء بلاده بن علي يلدرم عن نية أنقرة منح الجنسية التركية للسوريين المقيمين في تركيا الذين ترى الحكومة أن تجنيسهم سيكون إضافة إيجابية لتركيا (وهذه ليست المرة الأولى التي تخرج فيها تصريحات عن التجنيس) تذكرت ذلك الحوار الذي دار بيني وبين زميلتي أثناء رحلتي، فكرت في مآلات التجنيس الهوياتية وتبعاتها الاجتماعية السياسية بالنسبة للسوريين المقيمين في تركيا على المدى الطويل.

 

ما هي التحولات التي سيمر بها الجيلان الثاني والثالث من المجنسين السوريين في تلك الحالة؟ هل سيحافظون على هويتهم العربية أثناء دمجهم في المجتمع التركي؟ أم سيكون مآلهم كمآل عائلة والد زميلتي التي ذابت هويتها بعد الهجرة؟

في حين أن سؤال الهوية في حالة طالبي اللجوء السوريين إلى دول أوروبا -الغربية منها خصوصا- سؤال معقد (كأي سؤال هوياتي بطبيعة الحال)، بيد أن سؤال الهوية في حالة السوريين المقيمين في تركيا قد يكون أكثر تعقيدا وإشكالية، نظرا إلى الروابط الجغرافية والثقافية الممتدة تاريخيا بين العرب والترك عموما، وبين الشوام العرب والترك خصوصا.
 

مؤخرا، عندما أفكر في تحولات الهوية في المنطقة العربية والشرق الأوسط يحضر إلى ذهني كتاب صغير الحجم درسته في إحدى مواد الماجستير بعنوان "سياسات الأوْربة.. دراسة في المخيال الأمني لبولندا ودول البلطيق في مرحلة ما بعد الحرب الباردة" لمؤلفته ماريا مالكسو.

وإن كنت أخشى أحيانا من أن تتحول الفكرة التي يحويها الكتاب إلى كليشيه تفسيري لدي إلا أن الكتاب قد يكون مفيدا في تفسير العديد من التحولات الهوياتية التي تحدث خارج السياق والبقعة الجغرافية التي يتناولها.
 

يركز الكتاب على مفهوم ما بينية الهوية (liminality)، باختصار يعالج كتاب مالكسو مشكلات الهوية التي كانت تواجهها هذه الدول مع توسع مظلة الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو شرقا.

السؤال عن مدى قدرة السوريين على الحفاظ على ذاكرتهم يتوقف على كيفية تعريفهم لذواتهم

بداية، كانت تمثيلات دول شرق أوروبا في أوروبا الغربية تعكس دائما الأولى بوصفها جزءا من أوروبا، ولكن ليس بصورة تجعلها أوروبية تماما، فأوروبا "الحقيقية" في هذا السياق هي أوروبا الغربية التي تعد معيار الأوربة. بالنسبة إلى دول الغرب، إذا كانت الدول الشرقية ترغب في الانضمام عليها "التأوْرُب" أكثر فأوروبا الشرقية في هذه الحالة في عملية أوربة (تغريب) مستمرة للحاق بأوروبا الغربية ولكنها لا تصل إليها.
 

 يتناول الفصل الخامس من الكتاب الصراع على الذاكرة التاريخية للحرب العالمية الثانية بين دول أوروبا الشرقية حديثة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو وبين دول أوروبا الغربية المؤسسة.

وبينما تركز الذاكرة الغربية على الميراث النازي يريد الشرق-أوروبيين -من الطرف الآخر- أن يموضعوا ذاكرتهم عن الميراث الشيوعي ومركزتها بالقدر نفسه، وتنعكس هذه الصراعات الداخلية بدورها على السياسة الخارجية للاتحاد بصورة مركبة.
 

أحاول التفكير في مستقبل المجنسين السوريين من خلال الأطر ذاتها التي استخدمتها مالكسو في كتابها، فعند تتريك السوريين سيكون عليهم استبطان الذاكرة التاريخية للجماعة التركية، والجماعة (Community) مقولة متخيلة كما يرى الراحل بنديكت أندرسن، أو بالأحرى ستتم العملية تلقائيا مع الانتقال من الجيل الأول إلى الثاني، وهنا نتحدث عن ميراث الصراعات مع أرمينيا، واليونان، وروسيا ورؤية الأتراك لذواتهم وللعالم عموما.
 

والسؤال عن مدى قدرة السوريين على الحفاظ على ذاكرتهم يتوقف على كيفية تعريفهم لذواتهم "كمتترّكين" جدد، فبناء على عملية إعادة التعريف سيتضح مستقبل دور السوريين "المتترّكين" في المشرق العربي، سواء كنموذج جديد للقوة الناعمة للدولة التركية، أو كأداة ضغط داخلية يدفع بها المتترّكون الجدد للتأثير على السياسة الخارجية تجاه المنطقة أو الاثنين معا.
 

بعد نجاح الحكومة التركية في القضاء على الانقلاب من المؤكد أن قرار التجنيس سينفذ كما كان مخططا له

مرة أخرى، الصورة التي ستتم من خلالها إعادة تعريف الذات ستحدد المسارات المستقبلية لتأثير المواطنين الجدد في السياسة التركية. داخليا، يدور السؤال حول السلوك التصويتي للسوريين المتترّكين (وهو السؤال الذي يقلق أحزاب المعارضة التركية التي تمثل قواعد اجتماعية). على المدى القصير، من المتوقع أن يتجه المواطنون الجدد نحو دعم حزب العدالة والتنمية الحاكم نظرا إلى دوره.
 

ولكن السؤال الأكثر أهمية هو عن مستقبل اتجاهات السلوك التصويتي للجيل الثاني من المهاجرين المجنسين. في هذا السياق، تعلمنا بعض التجارب أن العديد من المهاجرين المجنسين يجنحون إلى التوجهات القومية لمعالجة إحساس ما بينية الهوية وحسم خياراتهم لصالح دفن انتماءات الجيل الأول المذبذبة، قد يكون من المبكر الإجابة عن هذه الاسئلة -خاصة الثاني منها- ولكن يجب أخذها على محمل الجد والاعتبار.
 

وبعد نجاح الحكومة في القضاء على الانقلاب من المؤكد أن قرار التجنيس سينفذ كما كان مخططا له من قبل، ولكن قبل وقوع محاولة الانقلاب العسكري الفاشل انزلق العديد من السوريين والعرب عموما إلى جدالات وردود على القوميين والعلمانيين الأتراك المعارضين دون مناقشة المآلات الهوياتية لعملية التجنيس، فضلا عن فهم مخاوف الأتراك المعارضين للقرار، ولست مطلعا بشكل كاف على أسباب معارضة القرار.
 

ولكن يجب على السوريين الدخول في حوارات منظمة -ما لم يتم ذلك سابقا- مع الأطراف الأخرى، ليس فقط لفهمها وفهم مخاوفها، وإنما أيضا لفهم الطريقة التي ستتم من خلالها إعادة تشكيل الذوات السورية في خضم عملية التجنيس. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.