شعار قسم مدونات

كيف ترسم علم فلسطين؟!

فلسطين

في المرّة الأولى التي طُلب مني أن أرسم علم فلسطين في المدرسة، ارتبكتُ كثيرًا لأنني لم أكن أحفظ ترتيب الألوان جيدًا، وكان ارتباكي أشد وأعظم، لأننا لم نكن يومها في مدرسة القرية، ولم تكن المُعلمة التي طلبت منّا القيام بذلك مُعلمة عربية ولا حتى فلسطينية، ولكنها كانت مُعلمة إسرائيلية من إحدى المدن التي استقبلتنا ضمن مشروع صداقة بين الطلبة العرب واليهود، كجُزء من التوطيد لعمليّة السلام واتفاقية أوسلو، التي تبخّرت ولم يبق منها إلا الذكريات.

ما لم تكن تعلمه تلك المُعلمة الإسرائيلية أننا لا نسمع كلمة فلسطين إلا في "الأخبار" والحارة، أما في المدرسة فإن جُل الأستاذة لا يُغامرون بذكر فلسطين، ظنّاً منهم أنهم سيخسروا وظائفهم، مع أنهم انفسهم يُعلموننا اننا في دولة ديمقراطية، ولكن حُدود الديمقراطية كانت تنتهي عندهم مع حدود فلسطين.

لم تتخيل أن هناك فلسطيني لا يعرف كيف يُرسم علم فلسطين، ولكنه يرسم علم إسرائيل الذي يرفرف على مدرسته بكل سهولة

كانوا يُفضلون السكوت على الكلام وبالتالي لم يُعلمنا احد في المدرسة كيف نرسم علم فلسطين ولا حتى حدود فلسطين ولا حتى النشيد الوطني، بينما المُعلمة الإسرائيلية التي طلبت منا أن نرسم علم "اسرائيل" وفلسطين جنبًا إلى جنب، لم تتخيل أن هناك فلسطيني لا يعرف كيف يُرسم علم فلسطين، ولكنه يرسم علم إسرائيل الذي يرفرف على مدرسته بكل سهولة، ومع ذلك ساعدتنا ورسمنا العلمين جنبًا إلى جنب، أملاً في دفع عمليّة السلام إلى الأمام.

يومها زارنا الطلاب اليهود في قريتنا، وكان علينا أن نحفظ الأغاني لاستقبالهم بحرارة، يومها تدربنا كثيرًا، خاصّة أن لغتنا العبرية كانت سيئة، لأننا لا نُمارس العبرية إلا في درس اللغة العبرية، فنحن لم نكن نستخدمها إلا يوم كُنت نسمع رنين الهاتف، فنركض إليه لنُفاجئ بشخص يتحدث العبرية فنقول له بحماسة شديدة: "حاكيه ريجاع" بمعنى: "انتظر قليلاً"، وننطلق لننادي احداً يُتقن العبرية.

المهم أن المدرسة كانت معنيّة أن نُظهر اتقاننا للغة العبرية ولذلك حفظنا مجموعة من الأغاني ولكن هناك أغنية عجيبة، بقيت اذكرها حتى اليوم واذكر كيف وأين وقفنا بل وكيف تدربنا لساعات طويلة وكيف صفقوا لنا بحرارة بعد أن غنيّناها، حتى بعد مرور 20 عاماً على تلك الوقفة، يومها غنينا لزوّارنا الطلبة اليهود: "جئنا بالسلام إليكم".

مشكلتي أننا لم نسمع الأغنية من الطلبة اليهود، بل كّنا نحن من يغني لهم هذه الأغنية

ليست مُشكلتي مع هذه الأغنية أنها صهيونية فقط، فقد كُتبت في القرن السابع عشر، ثم تحوّلت إلى أغنيّة شعبية إسرائيلية في القرن العشرين وهو قرن احتلال فلسطين، وحقق انتشاراً واسعاً بعد عمليّة السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979، ولكن مشكلتي أننا لم نسمع الأغنية من الطلبة اليهود، بل كّنا نحن من يغني لهم هذه الأغنية، ولربما كان اختيار مدرستنا للأغنية عشوائيًا، ولكنني كُلما تذكرت الأغنية وتذكرت وقفتنا اجدها تعكس روح تلك الفترة، وهو الخنوع السياسي، حيث أننا كُنا نُغنيها وكأننا نحن المُهاجرين الودودين الذين يرغبون بالسلام مع أهل البلاد الأصليين.

يومها صفقّ الحضور لنا بحرارة، تمامًا كما صفق العالم لاتفاقية اوسلو، مع أننا لم نكن نعلم كيف يُرسم علم فلسطين ولا كيف يُغنى نشيدها، بل كنا نستسهل رسم علم إسرائيل، وفوق هذا لا نفهم عن أي سلام يتحدثون، ولكن تبيّن لاحقًا أننا غنيّنا لأن فلسطين ضاعت أكثر مع اتفاقية اوسلو، ولأن الفلسطيني صار يحتاج إلى تصريح إسرائيلي كي يحفر بئر ماء للشرب، هذا غير أن إسرائيل صارت قادرة على هدم المنازل في مناطق "جيم" بسهولة أكبر وازداد بناء المستوطنات بشكل أسرع وأكبر وفوق هذا تم النظر الينا كفلسطينيين في داخل "اسرائيل" باعتبارنا شأناً إسرائيلياً داخلياً.

كارثة أوسلو الأكبر من ناحيتي، كانت يوم توجهت إلى أحد مدراء المدارس "العربية الاسرائيلية" في الداخل الفلسطيني، بأنه لا بُد من العمل أكثر على التوعية بالقضية الفلسطينية وأنه لا يُعقل أن يخرج الطفل بعد سنوات من المدرسة وهو لا يعلم ما معنى النكبة ومتى احتلّت فلسطين وكيف يكون علمها وحدودها ونشيدها، فكانت الصاعقة عندما اخبرني: لا مُشكلة عندي في أن تكون هناك مُحاضرات عن فلسطين، فهُم جيراننا ولهم علينا حق!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.