شعار قسم مدونات

تأملات وجودية عن "السجن"

تأملات وجودية عن "السجن"
كتبت هذه التأملات خلال تجربة إيقاف قصيرة استمرت أسبوعا، ولست أبثها هنا لتوثيق الظروف أو الحديث عن تجربة أخرى في الإيقاف، وإنما هي محاولتي الخاصة لإطلاق فكرة "السجن"، أي منع الحرية ضمن ظروف مكانية وزمانية محددة، بمعناها الوجودي الجوهري.
 

كانت أطول ليلة في حياتي هي أول ليلة في الحجز، حين كنت في زنزانة صغيرة بمساحة خمسة في خمسة تقريبا، على دكة خشب. لم يكن البرد أو الجوع أو الخوف، بشكل رئيسي، هو المستنزف، وهو ما جعل الليلة طويلة، بل أنني كنت أمام نفسي تماما -وللمرة الأولى في حياتي- بعيدا عن كل ما يلهيني ويبعدني عنها.
 

يمتد توحش الإنسان حتى يصير الإنسان وحشا بالفعل، ويمتد الزمان حتى يفقد معناه وجدواه

خارج السجن، يعيش الإنسان محددا ضمن مجرد، أو نسبيا في مطلق، أو سمها إن شئت،  سوسيولوجيا/سيكولوجيا ضمن أنطولوجي، لكنه عند تحديده بهذين البعدين (الزمان والمكان)، فهما يستحيلان وجوده، فيصبح السجين يعيش في مجرد ضمن المحدد، ومطلقا في النسبي، وتنطلق السوسيولوجيا والسيكولوجيا لآخرها، لتتحول حتى لحالة بيولوجية، تجعل المجتمع غابة، والإنسان وحشا.
 

تتشابه السجون في هذا الإطلاق/المطلق، لكنها تختلف في أي بعد، وتروي لنا قصص أدب السجون -على سبيل المثال- نماذج لهذه الأبعاد؛ ففي قوقعة سجن تدمر، في سوريا، يمتد توحش الإنسان حتى يصير الإنسان وحشا بالفعل، ويمتد الزمان حتى يفقد معناه وجدواه، كأن الحياة هي آهات وأوجاع يومية تمتد لسنوات، وتترك ندوبا لا تزول في الروح، بما يختلف عن عتمة "تزمامارت" الباهرة، التي أكل بها الزمن، حرفيا، أجساد وأرواح المساجين هناك، كما أكلت سيبيريا (منزل الأموات) أجساد وأرواح ساكنيها، كما يحدثنا دوستوفيسكي.
 

وكما أن مساحة الإنسان تمتد حتى تصير مطلقا، فإن الإنسان يمتد كذلك بهذه الأحوال حتى يكون بأكثر أشكاله عريا أمامها، وأمام نفسه، ليعرف الإنسان نفسه، روحا، بخيرها وشرها، لينطلق نبله حتى مع أشد الناس خبثا وشرا ولآمة، ومادة، فيعرف الإنسان تماما أن ما احتاجه في السجن، هو ما يحتاجه فقط، سواء كان قلما أم سيجارة أم ملابس أم طعاما أم شرابا أم كل هذه الأمور؛ وأن كل ما دون ذلك ترف يستطيع أن يحيا دونه، لكنه اعتاد عليه.
 

يروي الرئيس البوسني الراحل والمفكر الكبير علي عزت بيغوفيتش -رحمه الله- في "الإسلام بين الشرق والغرب" -الذي رافقني في السجن- أن الحاسوب مهما استطاع التطور وبلغ من الذكاء، فإنه سيعجز عن أمرين:

أن يكتب الشعر، وأن يكون متدينا، كما أن الإنسان البدائي استطاع العيش من دون مسرح أو مؤسسات، لكنه لم يستطع العيش دون دور عبادة.

وكذلك فإن الحاسوب مهما بلغ من ذكاء، فلن تخطر بباله فكرة السجن، الفكرة الإنسانية/الديسوتوبية الأخرى، التي لا تعني الموت، بل تعني انتفاء الحياة، بتحويل ديناميتها إلى سكون، ومطلقها إلى نسبي، ومحددها إلى مجرد، وكأن الإنسان، كما يستطيع أن يقترب من السماء بإطلاقها، فهو يقترب من الأرض بنسبيتها، ويجرب ذلك، لا على نفسه، بل على أبناء جنسه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.