شعار قسم مدونات

المدونات والتدوين.. تجدد روح الجزيرة المتوثبة

كتابة
لو أعدنا صياغة مدرجات في ثقافتنا بلغة العصر لأمكن أن نقول اليوم إن المدونات أو التدوين "ديوان العرب"، ولكان التعريف اللغوي للديوان -وهو "مجتمع الصحف"- دالا على مدوني اليوم، ذلك لأن مدوني اليوم جمعوا أشتات قضايا العرب في ديوانهم الافتراضي متخلصين من كل الأعباء حتى لو بدت في قالب تجنيس الكتابة.
 

صحيح أن العرب كانت تعتبر الشعر ديوانها، تؤْثره أدبا على سائر الأجناس والفنون، فكانت الكلمة المأثورة "الشعر ديوان العرب"، مقولة صارت مثلا سائرا وعنوانا خالدا. 
 

أردنا في الجزيرة أن يكون ديواننا هو الدفتر الافتراضي الذي يجمع كل المهتمين بهمّ الأمة والسائرين في ركب التحرر

صحيح أن المدونين العرب اليوم قد دونوا نثرا، لكن على طريقة شاعر العربية أبي فراس الحمداني حينما قال:

الشعر دِيوان العرب .. أبدا، وعنوان النسبْ

لَمْ أعْد فيه مفاخِري .. ومديحَ آبائي النجبْ

ومقطعات ربمـا .. حليْتُ منهن الكتبْ

لا في المديحِ ولا الهجاء ولا المجون ولا اللعبْ

 

فالتدوين اليوم جمعٌ لهموم الأمة، وحديث بطريقة متحررة إلا من الهم العام، ودفتر يجمع كل المطالب ويوضحها ويجليها

لا في المديحِ ولا الهجاء وَلا المُجُونِ وَلا اللّعِبْ
 

ولئن كان الديوان الأول أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه "هو الدفتر الذي يكتب فيه أَسماء الجيش وأَهل العطاء"، فقد أردنا في الجزيرة أن يكون ديواننا هو "الدفتر الافتراضي الذي يجمع كل المهتمين بهمّ الأمة والسائرين في ركب التحرر والانعتاق والداعين لذلك بالكلمة الحرة والجملة المحركة". 
 

كان عصر التدوين في الثقافة العربية الإسلامية منذ أزيد من 13 قرنا منطلق النهوض، تسجيلا للعلوم وتقعيدا لها وعناية بأدوات المعرفة تفكيرا وتقعيدا وإنتاجا، حتى قال الدكتور محمد عابد الجابري إن "العقل العربي هو البنية الذهنية الثاوية في الثقافة العربية كما تشكلت في عصر التدوين". 
 

فجاء التدوين اليوم مختلفا عن المصطلح الأول لكنه متقاطع معه في النتيجة التي ترمي إلى إعادة الترتيب، فالأول كان في ترتيب المعرفة، وهذا عمد إلى ترتيب المواقف والسياقات، فجاء استجابة لمطلب اللحظة التي تواجه فوضى الطغيان وضبابية المصادرة الفكرية والسياسية، وتتجه برد الفعل غير المدروس من المجتمع إلى حالة من التأسيس والمراجعة والنقاش والحوار، تقود إلى نهضة حقيقية مستفيدة من درس الأكاديميا ووعي اللحظة التاريخية والتبشير بمشروع معرفي عضوي. 
 

أرادت الفلسفة الليبرالية للتدوين أن يعبر عن الفردانية المطلقة في التواصل أدوات ومنهجا وفضاء، وأردنا إخراجه من ذلك الطور ليكون الفضاءَ العامَّ الذي يلتقي فيه الجميع، فالإنسان في أحد تعريفاته كائن اجتماعي، والمطلب هو التوازن بين الخصيصتين لا طغيان إحداهما على الأخرى ناهيك عن مصادرتها. 
 

نقل الإنترنت الناطقين بالعربية إلى فضاء جديد، فكانت استطلاعاته ومنتدياته ومجالات الكتابة والتعليق فيه؛ متنفسا لجماهيرهم مطلع الألفية الحالية. 
 

وشاعت ثقافة التدوين والمدونات في النصف الثاني من العشرية الأولى، وبقيت في زوايا الفردانية واهتماماتها الشخصية إلى أن نقلها همّ الأمة بداية العشرية الثانية (2011) إلى فضاء المجتمع، دعوةً لثورات وتكريسا لحريات وتبشيرا بعصر المشاركة السياسية الفعالة التي تنهي كافة ضروب الوصاية السلطوية. 
 

سيكون التدوين عندنا حرفا يعبر عن الأفكار، وكتابة تعبر عن الرأي والحقيقة وتنفذ إلى الأعماق

ازدهر التدوين في سني الربيع التي لم يرد لها أن تتجاوز الفطام، ثم ما لبثت عقابيل الثورات المضادة أن صادرت الفضاء وخنقت الحريات، فأغلقت المحطات وأوقفت الصحف وأممت المجال العام، فانكفأ الشباب إلى ما ألفوه في مواقع الإنترنت وحسابات التواصل الاجتماعي، وطفقوا يعوضون ما فات ويحيون ما مات من تجاربهم وطموحاتهم في الكتابة والتعبير. 
 

غير أن فضاء حسابات التواصل بقي قاصرا عن استيعاب الفكرة كلها ومحدود الجمهور، فالحاجة واضحة لفضاء أرحب وإلى تلاق أوسع، فكان تبني قناة الجزيرة لهذه التجربة أداء لواجب ورعاية لحق وتكريسا لحقيقة.
 

ليس التدوين متنفسا فحسب لجمهور كتمت أنفاسه أنظمة العسف وصادرت حقه، بل أداة حوار بنَّاء وساحة لقاء جامعة، هو استجابة واعية لهمّ عام في فضاء مفتوح، تحده المسؤولية المتفق عليها ويحمي أول ما يحمي الحق في التعبير والاختلاف. 
 

الإعلام حالة أو تجل من تجليات الأمة وليس نبتة علَّيْق أو فِطْر لا جذور ولا رعاية، ولذا أخذنا على أنفسنا في الجزيرة أن نواكب مطلب الأمة وأن نصاحب حملته وأن نؤسس لمدرسة الرأي والرأي الآخر ونجسدها في كل حين وعلى مختلف الصعد. 
 

سيكون التدوين هنا مجالا معبرا عن التنوع إنسانا وأدلجة، ومكرسا لحق الاختلاف ورافضا لكل وصاية إلا ما تعلق بمسؤولية مرعية أو حق قانوني محمي. 
 

سيكون التدوين عندنا حرفا يعبر عن الأفكار، وكتابة تعبر عن الرأي والحقيقة وتنفذ إلى الأعماق وتجلي الحقائق، فما زال القلم وما يسطرون أداة التعبير الأعمق والأرسخ والأبقى. 
 

لم تبق المقالة هي السيدة الوصية على الرأي في عالم التدوين، بل نافستها الخاطرة وتقدم عليها التدوين القصير، فسيكون لتلك النماذج أو الأشكال أو الأجناس مجالها المفتوح.
 

الهدف أن ننتقل جميعا في هذا الموقع من الشخصانية إلى الفضاء العام، ومن تسطيح الرأي إلى عمق الفكرة

لا يعني ذلك التخلي بالنسبة لموقع الجزيرة نت عن الأشكال المعهودة إن لم نقل التقليدية، كما لا يعني التخلي عن الحرفية والمهنية، ولا تجاوز الأطر الاحترافية المعهودة، وإنما يعني تبيئة هذه الأشكال التدوينية التي لم تكن معهودة في عالم الحرفة، ونقلها من الهواية والشخصانية إلى الاحترافية والعمومية دون تخل أو تنقيص أو إلغاء.
 

كما سيكون التدوين هنا صورة مرئية تترجم الأفكار وتنقل الوقائع، فقد أعطت ثورة الوسائط المتعددة لهذا المجال من التدوين دورا لا يمكن تجاهله وسطوة لا يمكن تحديها، وغدا بذلك من أدوات التعبير التي أتاحتها التقنية وعلينا التعاطي معها وتوسيع المجال لها. 
 

سيتحدث المدونون ها هنا بلغتهم الذاتية غير مقيدين بقالب مهني -صحفيا كان أو غيره- فيدوّنون آراءهم وخبراتهم وتجاربهم متحررين من قيود الجماعة ومنتقلين من عيوب الفردانية، متواصلين ومؤثرين ومتأثرين. 
 

الهدف أن ننتقل جميعا في هذا الموقع من الشخصانية إلى الفضاء العام ومن تسطيح الرأي إلى عمق الفكرة، وأن ننتقل من التنابز إلى الحوار ومن النقاش المتمترس بالانغلاق إلى حوار الفضاء الحر المضبوط بالتعدد والشأن العام فقط. 
 

إلى مدوناتكم في موقع الجزيرة نت، في فضاء قناة الجزيرة، حيث دائما "الرأي والرأي الآخر". 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.