شعار قسم مدونات

عقد قران مع الجزيرة !

يد

الارتباطُ مع صحيفة كعقد قرانٍ مع امرأة فمهما كان الزّواج جميلاً إلا أنّه يُعتبر ورطةً من زاويةٍ ما ! وها أنا أعقدُ قران كتابةٍ في منتدى الجزيرة !

وعندما أقول أنّ الكتابة الصّحفيّة كالزّواج ورطة، فأسألُ الله السّلامة، وأن لا تعتبر زوجتي أنّ هذا الكلام إساءة لشخصها الكريم، وأن لا يعتبر مدير التحرير أنّي أسأله فِكاكاً من هذه العلاقة، فالزّواج والكتابة عندي شرّ لا بُدّ منه !
 

الكتابةُ في الجزيرة فكرةٌ تُثير فيّ الرّعب ! هنا القُرّاء كُثر، والجمهور واسع، وأنا أخاف الزّحام الشّديد، وحده الزّحام حول الكعبة يغريني للاشتراك فيه، وما عدا ذلك أتحاشاه ما استطعتُ إلى ذلك سبيلاً، ولكن على ما يبدو وقع الفأسُ في الرّأس !
 

الأمرُ مثيرٌ للرّعبِ لأنّه يُشبه الانتقال فجأة من لعب كرة القدم في حارة الحيّ إلى اللعب مع ريال مدريد ! ويشبه الانتقال من الغناء في الحمام إلى الغناء على خشبة مسرحٍ مكتظ، فرقٌ كبير بين أن نفعل الأشياء بهدف المتعة الشّخصيّة وبين أن نفعلها بهدف إمتاع الآخرين ! بمعنىً أدقّ : فكرة مثيرة للرعب أن يُصبح المرءُ كاتباً مأجوراً ! لأنّه متى قرر أن يكتب لقاء أجر فسيصبح مثل " المومس الفاضلة " عند سارتر ، واقعاً بين نارين، نار المهنة والقانون والضوابط، ونار الشّرف الرّفيع الذي لا يسلم حتى يُراق على جوانبه الدّم ! أو الحبر ! فدمٌ كثير من جسد أُمّتنا يُراق ليسلم لها شرفها الرّفيع، وإن كانت قسمةً ضيزى أن نُساوي بين من يُقدّم دمه وبين من يُقدّم حبره، إلا أنّه من العقوق للدم أن يُراق ولا يجد حبراً يكتبُ عنه، ثمة موت من العار أن يذهب سُدى !
 

لطالما عرف النّاس أن سطوة القلم لا تقلّ عن سطوة السّيف

ولطالما عرف النّاس أن سطوة القلم لا تقلّ عن سطوة السّيف، فحسّان بن ثابت رضي الله عنه لم يحمل سيفاً كغيره من الصّحابة، ولكنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم كان يقول له : اهجُهُم وروح القُدس معك ! ذلك أنّ الصراع لا يُخاض بالبندقيّة فقط ، فكلٌ على ثغر، ناهيك أنّ البندقيّة التي لا عقيدة خلفها تقتل ولا تُحرر ! كما أنّ خيانة الأقلام أقبح من خيانة البنادق، فالبندقيّة الخائنة تُردي فرداً بينما القلم الخائن يُري أُمّةً ! وإنّ الرّائد لا يكذبُ أهله !
 

قد تجدوني موجعاً أحياناً ذاك أنّي أُؤمنُ أنّ الكتابة ليس من وظيفتها أن تكون عطّاراً يحاول ستر ما أفسده الدّهر ! وإنما أن تكون كأعمدة الإنارة في الشّوارع إن لم تجابه عتمة الليل بشراسة فليست إلا خوازق مزروعة في الطرقات ! وقد تجدوني سوداوياً أحياناً وهذا أقلّ واجب ! فالكتابة كما يقول نزار قباني ليست فنّ استخراج الوجود من العدم، ولا حرفة تحويل النّحاس إلى ذهب، وإنما فنّ الصدق بالدرجة الأولى، وخُذ القول ودعِ القائل ! وقد يتساءل البعض : أليس من وظيفة الكاتب أن يبثّ الأمل في النّاس ؟! فأجيبُ : هذا صحيح ، ولكن علينا أن لا ننسى أنّه هناك فرق بين أن يبثّ الكاتب الأمل في النّاس وأن يكون مهرّجاً يضحك عليهم أكثر مما يُضحكهم ! أو أن يكون طبيب تخدير يحقنهم بالأمل ليناموا !
 

عندما أتيتُ إلى هنا غيّرتُ المكان ولم أتغيّر، ولم يطلب مني أحد أن أتغيّر، على العكس تماماً، قالوا اكتُبْ ما تشاء كيفما تشاء ! وأنا أشاء أن أبقى على ضلالي القديم أُؤمنُ أنّ مشكلة غزّة مع إخوتها كمشكلة يوسف مع إخوته ، ذنبه الوحيد أنّه كان جميلاً أكثر مما ينبغي ! وأنّه عندما سلم من الذئب لم يسلم من إخوته، ولكنّ غزة التي حاصرها إخوتها أكلها الذئب، وجاء على قميصها بدم صدقٍ يُدمي النّاظرين، ولكن من سوء حظّها أنّ الذين أُدميت قلوبهم من مشهد دمها ليس بيدهم شيء، والذين بيدهم كلّ شيء عميان لا يُبصرون !
 

ما زلتُ أُؤمنُ أنّ الجاهليين وإن كانوا بلا دين فلم يكونوا بلا مُروءة، وأنّه عندما أجمعتْ قريش على حصار المسلمين في الشّعب سعى نفرٌ منهم لتمزيق صحيفة المقاطعة لأنهم عدّوها عاراً، كان فيهم من النُبل ما يكفي ليرفضوا أن يأكلوا ويشربوا وفئام من قومهم على مرمى حجرٍ منهم يتضوّرون جوعاً !
 

ما زلتُ أُؤمنُ أنّ في الشّام طاغية قتل شعبه ببراميله المتفجّرة وبصمتنا ! وأنّ الذين ما زالوا هناك يرفضون أن يركعوا أشرف منّا جميعاً، وأنّ هذا العالم الذي يخشى على مصالحه وعلى أمن إسرائيل أكثر مما يخشى أن يموت الذين لم يموتوا بعد لهو عالم يستحق اللعن كلّ يوم، وأنّه مهما صرخ بي بصوته الفاجر : يا فتى اعلُ هُبل ! فسأبقى أصرخُ بوجهه : الله أعلى وأجلّ !
 

باسم الديمقراطيّة تحوّل العراق من بلد كبير إلى مسلخٍ كبير !

ما زلتُ أُؤمن أنّ هذه الأرض غابة يأكل فيها القويُّ الضعيفَ، وما يدمي قلبي أنّ الذين يوم كنا أقوياء ذهبنا إليهم نخبرهم أنّه لا إكراه في الدّين، جاؤوا إلينا ليكرهونا في الديمقراطيّة، وباسم الديمقراطيّة تحوّل العراق من بلد كبير إلى مسلخٍ كبير !
 

ما زلتُ أُؤمنُ أنّ البنك الدوليّ سوق نخاسة تشتري فيها الدولُ القويّة الدولَ الضّعيفة، وتراودها عن قيمها ومبادئها ودينها ، وأنّ تحربر العبيد ليس إلا من مصطلحاتٍ رنّانة نقرأها في الكتب، فاستعباد الآخرين له أكثر من وجهٍ وأكثر من صورة !
 

ما زلتُ أُؤمنُ أنّ مجلس الأمن ليس إلا مجلس بلطجة، وأنّ الدّول التي تملكُ حقّ النقض الفيتو تتحكم بفظاظة برقبة هذا الكوكب، فلو أجمعَ العالمُ أمره على أمر وستخدمت دولة منهنّ حق النّقض ، فكأنّها تقول : شكراً لاجتماعكم أيها النّاس، ثمّ إنه لتبّاً لكم ارجعوا إلى منازلكم، هذا الأمر لن يتم !
 

ما زلتُ أُؤمنُ أنّ هناك فرقاً بين المدنيّة والحضارة، وأنّ هذا الغرب الذي يُدير زمام الأرض متمدّن بعراقة، ولكنّه متحضّر بخزي ! فالمدنيّة في الآلات والاختراعات والاتصالات والطب، ولكن الحضارة في القيم والمبادىء والأخلاق، والإنسان الذي يبكي لقطة تُداس في الشارع في بلده، ثمّ يصفّق لدولته وهي تسحق بشراً في بلد آخر ليس إلا وحشاً في مسوح البشر !
 

على هذا عقدنا القِران وكان الصِّداق، وعلى هذا أسير، هذا أوّل الكلام، والبقيّة تأتي

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.