الإنسان بحاجة للهدوء، بحاجة للعودة إلى الطبيعة، بحاجة للبعد عن صخب التقنية، لا شك في ذلك. لكن فقط لفترة مؤقتة، وعلى فترات مُتقطعة. الهدوء الممتد يشبه الموت، بينما الصخب هو الحياة ذاتها.
الصخب التقني على وجه الخصوص هو مقياس تقدم الجنس البشري، أو على الأقل هذا ما تمليه عليّ ميولي الفكرية والأكاديمية كباحث في الذكاء الاصطناعي والروبوتيات.
طبيعة الواقع التقني في مكان ما هي المُحدد الرئيسي للعصر الذي يسوده |
كان من المقبول في السابق وصف فترات مُعينة من تاريخ الجنس البشري بعبارات تعميمية، كأن نقول مثلا إن حياة البشر في القرن الفلاني كانت على الشاكلة الفُلانية، ولكن أصبح من المستحيل الآن فعل ذلك. في وقتنا الحالي، وبسبب التباين الهائل في الواقع التقني، لا يُمكننا زعم أن البشر يتشاركون ذات التجربة بصورة قابلة للتعميم.
أدبيات السايبربانك تتحدث عن مستقبل قريب يتشارك فيه كل البشر نفس الواقع التقني. في هذا العالم، التقنية شمولية مُطلقة التغلغل، لدرجة أن العديد من الحدود المفاهيمية التقليدية تبدأ في الاختفاء؛ كالحدود بين العالمين الحقيقي والافتراضي، والحدود بين الإنسان والآلة. التغيّرات الهائلة في الواقع التقني يصحبها تغير جذري في البنية الاجتماعية للبشر، بل حتى في تعريف ماهية البشر من الأساس. مثل هذا العالم -بكل تأكيد- سيكون أقل مللا بكثير من عالمنا الحالي؛ في النهاية سيكون لدينا الكثير من الأشياء الجديدة لنختبرها.
لكن على الرغم من ذلك، يميل الأدباء إلى تصوير واقع سوداوي خلال تلك الفترة. العالم تديره حكومات مُطلقة السُلطة، غير بشرية في أغلب الأحيان (على سبيل المثال، ذكاء اصطناعي خارق). الأفراد -والذين قد يكونون بشرا أو كائنات هجينة أو كائنات سيليكونية- ينقسمون إلى مؤيد مُطلق، أو مُعارض مُطلق، أو مجموعة من معدومي الحيلة. في الغالب، يلعب دور المُعارض مجموعة من المُخترقين الخارجين على القانون، والذين لا يرفضون فقط تسلط الحكومات اللابشرية، وإنما كُل العالم الذي أوصل إلى هذه النُقطة.
قد لا يكون من المُفاجئ معرفة أن اليابان تحتل الصدارة في ما يتعلق بالأفكار والمنتجات الثقافية المرتبطة بالسايبربانك منذ الثمانينيات |
حسنا، على الأقل لن يحدث في البداية.
ولكن ماذا عن مدى اقترابنا من شكل هذا العالم، على الأقل تقنيا؟
الأمر يعتمد على العصر التقني للمكان الذي تسكنه الآن. بالنسبة لليابان -وتحديدًا هُنا في طوكيو– فهذا العالم قد بدأ بالفعل. قد لا يكون من المُفاجئ معرفة أن اليابان تحتل الصدارة في ما يتعلق بالأفكار والمنتجات الثقافية المرتبطة بالسايبربانك منذ الثمانينيات، وأن أعمالا أيقونية مثل ثلاثية "ماتريكس" مُستلهمة بشكل مُباشر من أفلام يابانية. المزيد بشأن هذا الأمر في مقالات لاحقة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.