شعار قسم مدونات

لم يزل الأمر ممكناً

blog مازال هناك أمل
باختصار، أردنا، ولم نزل نريد، نحن المحكومين، ألا يحكمنا أحد إلا إذا رضينا به أو رضي به أكثرنا. أردنا، ولم نزل نريد، ألا يجبرنا أحد ويتجبر علينا بقوة السلاح، لا سيما أننا، في بلادنا، لا نصنع سلاحنا، بل نشتريه من أقوام أخرى.
 

فإذا كان السلاح مصدر السلطة، وكان الأجانب مصدر السلاح، فكأننا يستعبدنا حاكمنا المحلي، ويستعبده حكامه الأجانب، فنكون تحت الاحتلال. إن الثورتين اللتين قامتا في مصر وفي تونس قبل خمس سنوات، كانتا في جوهرهما ثورتي استقلال. وعلى ذلك فإنهما لم تكونا إلا حلقة في سلسلة طويلة من محاولات الاستقلال قامت بها الشعوب العربية في القرنين الماضيين.
 

في الثورتين المصرية والتونسية، كان سبيلنا إلى التحرر من حكم السلاح الأجنبي هي الاعتماد على العدد الأعزل حيث يغلب عدد مهول من العزل عددا قليلا من المسلحين

وبما أننا لم نكف عن محاولة الاستقلال لمائتي سنة مضت، فلا يوجد ما يدعوني للظن بأننا سنكف عن المحاولة الآن، مهما لحقتنا الهزائم أو تحملنا من ألم. وإذا كنا لن نكف عن المحاولة، أي أننا سنحاول إلى ما لا نهاية، فإن انتصارنا، من ناحية حساب الاحتمالات والإحصاء البحت، يصبح أكيداً.

 

إننا سننتصر لا محالة، كل ما هنالك أن كلاً منا يجتهد، بقدر علمه وطاقته، لكي يأتي هذا الانتصار في العاجل لا الآجل، وأن يكلف دماً وجهداً وحزناً أقل، ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
 

ولقد كان سبيلنا إلى التحرر من حكم السلاح الأجنبي، الأميركي في معظمه، في الثورتين المصرية والتونسية، هي الاعتماد على العدد الأعزل. هذا النوع الجديد من الثورات، حيث يغلب عدد مهول من العزل، عدداً قليلاً من المسلحين، يكاد يكون غير مسبوق في التاريخ. وقد أصبح ممكناً بسبب تغيرين ماديين طرآ على البشرية، أحدهما ديمغرافي، والثاني تكنولوجي.

الأول هو أنه لم يكن على وجه الأرض هذا العدد من الناس من قبل. والثاني، هو أن اتصال هذه الأعداد بعضها ببعض أصبح أسهل اليوم منه في أي زمن مضى. فحين كان سكان القاهرة لا يزيدون على بضع مئات من الآلاف، ثلثاهم من الأطفال والمسنين ومن نساء لم يكن يخرجن للمجال العام، كان ممكنا أن يحتل البريطانيون البلاد، أو أن يخرج الولاة أو المماليك من قبلهم تجريدة لتأديب من يتمرد من الناس.
 

أما الآن فسكان القاهرة وحدها يُعدون بالملايين، وكل واحد منهم قادر على الاتصال بعشرة أشخاص غيره على الأقل في عدة دقائق، بالإضافة إلى وسائل الحشد العامة، كالإذاعة والتلفزة والإنترنت، بل حتى المساجد والكنائس المزودة بمكبرات الصوت قادرة على الحشد أكثر من المساجد والكنائس قبل مائة سنة. ولا يمكن أن تتضخم الجيوش بنفس وتيرة تضخم أعداد السكان، لأن الجيوش بقيت عبر العصور مكلفة، بل إن كلفتها تزيد مع الوقت فتقل أعدادها ولا تكثر. إن قدرة الملايين على الحشد والاتصال، جعلت مشاهد مثل مليونيات التحرير ممكنة، وجعلت استخدام السلطة لسلاحها شبه مستحيل.
 

الثورات التي تطالب بالحرية والاستقلال تنجح حتى وإن فشلت. أما الحروب الأهلية الطائفية والعرقية، فإنها تفشل حتى وإن نجحت.

ولكن لا بد هنا من التحذير مهما غضب البعض: إن الثورات التي تطالب بالحرية والاستقلال تنجح حتى وإن فشلت. أما الحروب الأهلية الطائفية والعرقية، فإنها تفشل حتى وإن نجحت. لأن العدد إنما يحتاج قدراً ما من الإجماع، وإلا انقسم الحشد حشدين، واستطاع المسلحون اللعب عليهما والاستعانة بأحدهما ضد الآخر. ولا يكون إجماع على خطاب يفضل طائفة على أخرى أو عرقاَ على آخر في بلاد متعددة الأعراق والمذاهب والأديان كبلادنا.
 

ثم إن الثورة في جوهرها رفض مبدئي لأن تحكمنا قلة منا قهراً وجبراً بسلاح يعطيه لهم الأجانب، فإذا انقسمنا طوائف وأعراقا، وراح بعض ممن يسمون أنفسهم ثواراً يقبلون أن يسلحهم الأجانب، ثم راحوا يفرضون سلطتهم على الناس بقوة هذا السلاح، خرج هذا كله عن معنى الثورة، وأصبح استبدالاً لاستبداد باستبداد، واستعباد باستعباد، واحتلال أجنبي باحتلال أجنبي.
 

وبهذا التعريف أيضاً، تصبح الثورات العربية، بالطبيعة، مضادة للصهيونية. لأن الصهيونية في جوهرها تفضيل أهل دين معين على أهل الأديان الأخرى. إن إسرائيل هي الدولة الوحيدة، من بين الدول التي تحظى بالاعتراف الرسمي العالمي، التي يكفي للمرء أن ينتمي لدين ما حتى يكون مواطناً فيها، ويكفيه ألا يكون منتمياَ لذلك الدين ليحرم من حقوقه في أرضه وبيته.
 

الثورات العربية لا يمكن، تعريفاً، أن تنجح، إلا إذا كانت عدوة للصهيونية، وعدوة للطائفية

فمن الناحية النظرية، لو أن ملايين اللاجئين الفلسطينيين تحولوا بقدرة قادر إلى الديانة اليهودية غداً، لسمح لهم قانون العودة الإسرائيلي بالإقامة في حيفا ويافا. لقد طُردوا وسُلبت ديارهم وحُرقت قراهم لا لشيء إلا لأنهم مسلمون ومسيحيون. طردوا ببساطة لأن دينهم لا يروق للغزاة. وبديهي أن الصهيونية تفرض هذا النظام العنصري على ضحاياها بقوة السلاح، فهي نقيضة للثورات العربية من الوجهين: هي نظام طائفي عنصري بالتعريف، وهي نظام حكم قائم على الإجبار بقوة السلاح.
 

وعليه، فإن الثورات العربية لا يمكن، تعريفاً، أن تنجح إلا إذا كانت عدوة للصهيونية وعدوة للطائفية ومنهية للحروب الأهلية التي تمزق هذه الأمة مراعية لمصالح كل الطوائف والمذاهب من مسلمين ومسيحيين وشيعة وسنة وإسلاميين وعلمانيين وغير ذلك. وما كانت الانتكاسات التي تعرضت لها الثورة المصرية، تحديداً، إلا بسبب تخلي النخب المصرية، الدينية والمدنية على حد سواء، عن هذه المبادئ، فتحالفوا مع العسكر، وتبنوا الخطاب الطائفي في الإقليم بحيث رأوا أن الأولوية هي لصراع كارثي بين السنة والشيعة، لا للصراع الصحيح والعادل ضد الصهيونية. ثم بقوا على حلفهم الإستراتيجي مع الولايات المتحدة الأميركية وعلى سلامهم مع إسرائيل.

إن النصر لم يزل ممكنأً، على ألا تتكرر أخطاء السنين الخمس الماضية، وأن لا يقود هذه الثورات من قادها في السنوات الخمس الماضية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.