شعار قسم مدونات

الثورة والثورة المضادة.. على لسان مالك بن نبي

blog-الثورة

الثورة ذاك المصطلح الذي أسال الكثيرمن الحبر كما أسال الكثي من الدّم،  وتكلّم في معناه الفقيه المُلّهم، والحاكم الظالم، و الخطيب المُفوه،  والمواطن البسيط . كلٌ يُدّلي بمفهومه حسب الزاوية التي ينظر بها إليه، ليتكوّن مصطلح مُركب صعب التحدّيد والتنظير.

هذا التركيب جعل من تأصيلها مسألة مستعصّية حتى على كبار الباحثين، وشهد التاريخ عبر عصوره المختلفة تصدّي مجموعة من الخبراء خاصة في علم الإجتماع لتحليل الظاهرة،  أبرزهم المفكر الإسلامي مالك بن نبي الذي تكلّم عنها في أكثر من مقال، وقد اخترنا في هذه التدوينة إلقاء الضوء على بعض شروحاته لظاهرة الثورة و الثورة المضادة التي برزت مؤخراً كعائق نجاح في وجه الثورات العربية وعامل شللّ لنهوضها جعلها ترتّد بها إلى ما "قبل قبل الثورة " فخَطت خُطوة واحدة نحو الغاية،  ثم أتبعتها بخطوتين إلى الخلف، عادت بها إلى مرحلة ما قبل قبل الثورة كما وصفناها.

الثورة لا ترتجل، إنها اطراد طويل يحتوي ما قبل الثورة والثورة نفسها، وما بعدها

مراحل الثورة
الثورة كوسيلة للعتق من عبودية الأنظمة المتسلطة ليست حركة عشوائية، أو شطحة من شطحات الصوفيّة،  أو لعبة شوارع تُمارس بغوغائية.

لا إنها أكبرمن ذلك، إنّها قفزة في الظلام و وثبة نحوالمجهول ممكن أن تردي بأصاحبها وتهوي بهم إلى المهالك، و بالأوطان إلى الخراب، لذا يجب أن تعامل معاملة البناء المكتمل الأركان تخطيطاً و تنفيذاً.

يقول مالك بن نبي( كتاب بين الرشاد و التيه ، ص 14) " فالثورة لا ترتجل، إنها إطراد طويل يحتوي ما قبل الثورة و الثورة نفسها، وما بعدها. و المراحل الثلاث هذه لا تجتمع فيها بمجرد إضافة زمنية. بل تمثل فيها نمواً عضوياً و تطوراً تاريخياً مستمرا. و إذا حدث خلّل في هذا النمو وفي هذا التطور فقد تكون النتيجة زهيدة تخيب الآمال"- بل نقول إذا حدث الخلّل قد تكون النتيجة كارثية جالبة للدمار!-، إذن للثورة مراحل فهل حققتها الشعوب الثائرة !؟

أولى مراحلها ما قبل الثورة،  وهي المادة الخام للثورة ذاتها وتتجسد في الوعي الشعبي بالثورة كفعل و نتيجة، تُمثله كتلة بشرية يغلُب عليها النضج المعرفي، منظمة الحركة إلى حدٍّ كبير، و مصممّة على التغيير و ليست مجاميع غوغائية يغلب عليها العشوائية والجهالة المعرفية الشئ الذي يجعل ضبط حركتها نحو الغاية مُحصنٌ من عوائق مرحلة الثورة ذاتها.

بالإضافة إلى هذا المطلوب يجب توافر عامل مُهم جداً،  وهو عامل القيادة فأغلب الثورات عبر التاريخ لا تخلو من قيادة إما في صورة أشخاص أو في صورة مدارس فكرية بثت في عروقها أسباب الحياة، فالثورة الإسلامية قادها شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ومدرستها الفكرية "عقيدة التوحيد"، و الثورة الإنجليزية عام 1688 قادها البرلمانيون الإنجليز بالتحالف مع ويليام الثالث، و الثورة الفرنسية عام 1789 التي أسقطت ديكتاتورية الحكم المطلق تغذت فكرياً من المدارس التنويرية التي مثّلها المفكر مونتسيكيو، و فولتير، و جون جاك روسو وغيرهم،  وكذا الثورة البولشفية عام 1917 قام بها البلاشفة بقيادة فلاديمير لينين ونهلت أفكارها من مدرسة كارل ماركس .

هذه أهم العوامل التي يجب أن تسبق مرحلة الثورة وترافقها إلى غاياتها وهي تؤثر في مرحلة الثورة تأثيرا مباشراً يؤدي بها الى التمكين و الوصول إلى الحريات المنشودة.

الثورة المضادة

يقول مالك بن نبي في نفس المرجع "فالثورة قد تتغير إلى ( لا ثورة ) بل قد تصبح ( ضد الثورة ) بطريقة واضحة خفية، و الأمرالذي لا يجوز أن يغيب عن أذهاننا في هذا الصدد هو أنّ مجتمعاً ما بمقتضى طبيعته البشرية ينطوي على خمائر من روح ( ما ضد الثورة ) طبقاً لمبدأ التناقض تناقضاً مستمراً، حتى في فترة ثورية، نستطيع تتبع آثاره في تاريخ كل الثورات تتبعاً لا يغني معه أن ندفع عجلة الثورة في وطن ما،  بل يجب تتبع حركتها و رقابتها بعد ذلك ".

على الثائرين الرويّة حتى تتوافر لهم عوامل النجاح ليكسبوا الحرية دون أن يخسروا الأوطان

وإلى ما بعد الثورة يُشير المفكر مالك بن نبي إلى إمكانية تحول الثورة إلى ثورة مضادة تنطلق من داخلها فضلاً عن إنطلاقها من خصوم الثورة، لذا يجب الرقابة عليها،  وهذه الرقابة لا تتم طبعاً إلا بوجود قيادة حكيمة ووعي فكري لدى القائمين بالثورة، و إلاّ انقلبت إلى ضدها.

ولا يخفى على الباحث و المتابع ما آلت إليه الثورات العربية نتيجة غياب الفكر والقيادة من خيبة، والجنوح بها عن مسارها المنشود الأمر الذي أدى إلى استنساخ الأنظمة الساقطة – شكلا و مضمونا- في صورة مختلفة و هوية واحدة، بل ربما في صورة متطرفة عما كانت عليه الأولى وهو ما شاهدناه في مصر وتونس وغيرها،  دون أن نهمل المؤثر الخارجي والدور الذي لعبه في إفشالها.

فالثورة كالمريض في غرفة الإنعاش لا يفارقه الأطباء لحظةً حتى يستفيق من غيبوبته، ،ومتى غابوا عنه لحظة واحدة تعطلت وظائفه و انتقل إلى الحياة الأخرى، وكذلك الثورة متى غابوا عنها لحظة واحدة انتقلت الى ثورة مضادة أو ارتدّت إلى مرحلة ما قبل قبل الثورة.

فعلى الثائرين الرويّة حتى تتوافر لهم عوامل النجاح ليكسبوا الحرية دون أن يخسروا الأوطان -وكم هي غالية خسارة الأوطان- أو يعودوا بشعوبهم إلى مرحلة البناء من الصفر ويا لها من فاتورة مكلفة لو حصلت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.