شعار قسم مدونات

الهندسة.. علم لا ينفع؟!

blogs بناء

المهندس هو إنسان قدّيس اختاره الله تعالى واصطفاه على سائر البشر ليمنحه فضلا لم يمنحه أحدا غيره، وعليه فهو الوحيد الذي يستحق الحمد والاحترام والثناء.

ويا من أصبحت مهندسا، هينئا لك وكن فخورا فأنت فوق سائر البشر كلهم! وكيف لا وكل ما يتمرمغ به سائر الرعاع لهو من فضلة خيرك وشخبطاتك وعلمك الغزيرالوفير الذي تفضلت به عليهم؟ وكيف لا وقد قال إفلاطون فيك "من لم يكن مهندسا فلا يدخلن مجلسنا"؟

الهندسة في نهاية الأمر علم، ومثلها في ذلك كمثل سائر العلوم الأخرى بشقيها الطبيعي والإنساني.

تلك كانت الفكرة المختصرة لمقال نُشر مؤخرا لأحد الإخوة الأفاضل، مع فائق الاحترام والتقدير له، ورغم أنه لم يكتب ذلك حرفيا إلا أن هذه النبرة الاستعلائية العجيبة كانت فحوى خطابه وإن لم تكن تلك نيته فعلا.

وبالمناسبة، فإن ابن خلدون لم "ينقل" عبارة إفلاطون فعلا كما زعم كاتب المقال، حيث إنه أسبق مقولة إفلاطون بقوله "وقد زعموا أنه كان مكتوباً على باب إفلاطون…"، ولم يقل مثلا "وقد قال إفلاطون.." أو "وثبت عن إفلاطون أنه قال..". كل ما فعله ابن خلدون إذن هو أنه نقل مقولة زعم البعض أنها لإفلاطون. هل قالها إفلاطون فعلا؟ ربما، وربما لا! لكن الثابت أنه لا إفلاطون ولا ابن خلدون نفسه كانا مهندسين أصلا، أو على الأقل ليس بالمعنى الضيق الذي ارتآه صاحبنا كما هو واضح من الأمثلة المحددة التي أفردها في مقاله.

الآن، دعونا نطرح هذا السؤال الساذج من هو المهندس، وما هي الهندسة؟ لتبسيط الأمر، سننظر إلى المعنى المعجمي لكلمة "هندسة". فالهندسة في اللغة مصدرها "هندس"، وتعريفها (وأنا هنا أنقله حرفيا من موقع "المعاني") هو:

الهَنْدَسَةُ : العلمُ الرياضيُّ الذي يبحث في الخطوط والأَبعاد والسُّطوح والزوايا والكميّات أَو المقادير المَادِّيَّة من حيثُ خواصُّها وقياسُها أَو تقويمُها وعَلاقةُ بعضها ببعض، وللهندسة العلمية أَنواعٌ، لكلٍّ منها غرضٌ معيَّن، منها الهندسةُ الآلية ( أَو الميكانيكية )؛ والهندسةُ الكهربيَّة، والهندسةُ الحربية، وهندسةُ المعادن، والهندسةُ الكيماويّة؛ والهندسةُ المدنيَّة كالهندسةِ المعماريةِ، وهندسةِ الطرق والجسور، وهندسةِ الطُّرق الحديدية، والهندسةِ الصحيَّة، والهندسةِ الزراعية وغير ذلك.

إذن فإن المهندس هو باختصار وتبسيط شديدين، شخص درس وتخصص في إحدى هذه المجالات (سواء كانت الهندسة الكهربائية، أو الميكانيكية، أو الصناعية أو الزراعية أو هندسة الحاسوب، أو غيرها)، وبرع بها وقام بتوظيف علمه في حل إشكاليات معينة بأقل التكاليف، فالمهندس المعماري مثلا يمكنه حل إشكالية صعوبة عبور الناس من بين جبلين من خلال تصميم جسر محكم البناء، بمقاييس ومواصفات دقيقة جدا، ليربط الجبلين معا مما يسهل على الناس تنقلهم ويختصر عليهم الكثير من الوقت والجهد والمسافة، والأمثلة الأخرى على فضل المهندس، أيا كان مجال تخصصه، لا حصر لها بطبيعة الحال.

ولكن الهندسة في نهاية الأمر إنما هي علم، ومثلها في ذلك كمثل سائر العلوم الأخرى بشقيها الطبيعي والإنساني، وكما هو معروف فإن هناك علم "ينفع" وعلم "لا ينفع"! وكلنا نحفظ ذلك الدعاء: اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع،  وهذا بدوره يحيلنا إلى التساؤلات التالية: ما هو العلم الذي لا ينفع؟ هل يمكننا أن نأتي إلى علم من العلوم، طبيعيا كان أم إنسانيا، سواء كان علم الرياضيات، أو الهندسة، أو الفيزياء، أو حتى علم العروض أو علم الأنساب، فنقول عنه ببساطة أنه "علم لا ينفع"؟ أو بمعنى آخر، هل المنفعة أو عدمها مرهونة بأصل العلم ذاته أم بكيفية توظيف الإنسان لهذا العلم أو ذاك؟

وللتفصيل قليلا في جواب هذه التساؤلات، يمكننا بسهولة أن نتخيل أن علم الهندسة بإمكانه أن يكون "علما لا ينفع"! فما رأيكم بمهندس أفنى سنوات من عمره في دراسة الهندسة حتى حصل على شهادة جامعية بها، ثم ما لبث أن ألقى كل ذلك وراء ظهره ولم ينفع الناس به؟ ألا يكون علم هذا المهندس في هذه الحالة "علم لا ينفع"؟ لا بل أكثر من هذا، فقد يكون علم الهندسة علم ضار يجلب الهلاك والوبال على البشرية! فما بالكم بالمهندس الذي يوظف علمه في تطوير وبناء منظومات من الأسلحة الفتاكة التي تبيد آلاف الأبرياء في ضغطة زر؟

ولعل أشهر مثال على هذا هو عالم الفيزياء الأمريكي، جي روبرت أوبنهايمر، مخترع القنبلة الذرية التي راح ضحيتها ملايين البشر خلال ثوان معدودة في هيروشيما وناجاساكي. ويا للمفارقة، فقد أفنى أوبنهايمر ما تبقى من عمره في محاربة استخدام هذا السلاح المرعب! كما يروي المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري رحمه الله تعالى في سيرته الذاتية "رحلتي الفكرية: في الجذور والبذور والثمار" أنه التقى بأوبنهايمر شخصيا، وسأله كيف كان شعوره عندما أيقن أن التجربة الأولى لسلاحه الفتاك قد اقتربت فعلا، فكان رد أوبنهايمر "لقد تقيأت!". ذلك أنه أدرك حينها، وعند فوات الأوان، مدى فداحة الجرم الذي وقع فيه!

إن استخدم الإنسان ما رزقه الله من علم فيما ينفع الناس ويسهل حياتهم، فهنيئا له ولله دره. وأما إن كان غير ذلك، فإثمه في رقبته. 

وكمثال مختصر آخر، يكفي أن ننظر إلى الأطباء الذين وظفوا علمهم في ابتكار أساليب ناجعة لتعذيب واستجواب السجناء وإنزال أكبر قدر من الألم والعذاب والإذلال بهم دون قتلهم حتى نرى كيف يمكن للطب أن يكون علما ضارا ظالما هو الآخر!

يتضح إذن مما سبق، أن الإجابة الحكيمة على سؤال "ما هو العلم الذي لا ينفع؟" هي أن منفعة علم من العلوم أو عدمها ليست مرهونة بالعلم نفسه، وإنما بكيفية استخدامنا لهذا العلم في منفعة البشرية. ولتبسيط الأمر أكثر، يكفي أن نعيد، في أذهاننا، ترجمة الدعاء الجليل "اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع" على أنه "اللهم إنا نعوذ بك من ألا ننفع الناس بعلم علمتنا إياه"، أو بعبارة أخرى أيضا "اللهم إنا نعوذ بك من توظيف علم علمتنا إياه فيما لا ينفع".

نستنتج إذا من كل ما سبق، أن المهندس في نهاية الأمر ما هو إلا بشر ابتلاه الله بأن علمه شيئا من علم الهندسة، كما ابتلى غيره كذلك بمنحهم علوما ومعارف أخرى، كي ينظر كيف سيوظفون ذلك العلم أو تلك المعرفة. فإن استخدم الإنسان ما رزقه الله من علم فيما ينفع الناس ويسهل حياتهم، فهنيئا له ولله دره. وأما إن كان غير ذلك، فإثمه في رقبته وحسابه وعقابه عند ربه.

وعليه، فلا ينبغي للمهندس، ولا لغيره أن يتعالى ويتباهى بعلمٍ آتاه الله إياه، فـ" إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ"، ومن تواضع لله رفعه.

والله أعلى وأعلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.