شعار قسم مدونات

قصتي مع المطلوب الأول في تركيا "باهوز آردال" (2)

blogs-أحمد الزاویتي

 "صحفي متعاطف مع إرهابي"

أمست ساعات الليلِ طويلة، في ليل الصيف القصير..
أتقلب في الفراش، لا تسرقني إلى نوم..
الهواجس تسيطر على كل شيء..

تأخذني أحياناً من الفراش، توجهني لصالة الاستقبال؛ لأفتح التلفاز، يأخذني الكونترول، أتقلب بين القنوات، ابدأ من الجزيرة كعادتي ثم متجولاً في البقية، دون أن انتظر ما سأشاهد. في مثل تلك اللحظات أشعر بضعف الفضائيات كلها حيث لا تستطيع أن تسيطر على تفكيري لمشاهدة أخبارها، ربما يكون السبب هو ضعفي في مثل هذه الحالات، حيث لا يبقيني مستقرا أمام إحداها..

جولة في المطبخ، كأسٌ من الماء أشربه فلا أُكمله، حباتٍ من العنب أقطفها من عنقود في الثلاجة وأترك العنقود، قطعة من الخوخ تلتقفها أسناني دون أن أكملها كلها، حبة مشمش..
 

لا أجمل في الصلاة عند الختام، تسلم على عالم اليمين فتقول "السلام عليكم ورحمة الله" ثم تدير رأسك إلى اليسار لتسلم على الجانب الآخر من العالم وترسل إليه السلام.

عودة إلى اللابتوب لأتصفح..
صمتٌ يخيم على أروقة مكان إقامتنا في آلانيا بتركيا، حيث أنا والعائلة لقضاء أسبوعين من الإجازة..
صمتٌ بعد صخب الأولاد الذي أخَّرهم حتى الواحدة بعد منتصف الليل، وهم يتحدثون، يضحكون، يلعبون البلاي ستيشن..
 

لكنهم جميعاً خلدوا إلى النوم بعد ذلك، فتعب رحلة الأمس التي تطلبت ساعتين في مطار أربيل، ساعة ونصف في الجو إلى أضنة، خمس ساعات انتظار في مطار أضنة الصغير بعد تأخير الرحلة إلى انطاليا لساعتين، ساعة طيران إلى انطاليا، ثم ساعتين براً من انطاليا إلى آلانيا..
 

عشر ساعات ونصف، كانت كفيلة لسرقة جميع أفراد العائلة إلى النوم، إلا أنا الذي كنت أقوى من نوم ليل بعد تعب سفر..
وُضوء، ركعتين صلاة سنة في جوف الليل، عودة إلى الفراش انتظاراً لأذان الفجر الذي يملأ الأجواء إذا حان..
جاء الأذان، الذي ينقل هنا حتى عبر المايكروفونات في الترافكلايت في شارع بارباروس بمحمودلر بآلانيا..
 

في الصلاة عند محاولة تناسي كل شيء، كل الأفكار، كل المشاكل، كل خبر سعيد أو حزين، مريح أو مقلق، والإبقاء فقط على إن كل شيء زائل إلا وجهه، والوقوف أمام يديه، والتفكير فقط في عظمته، ورحمته، والدخول تماماً إلى عالم ليس كعالمنا، عالم التسبيح وقراءة آيات من الذكر الحكيم، والدعاء والشعور بأن لا حول للإنسان ولا قوة إلا بالله، والاستعانة به بـ (إياك نستعين) حينها فقط يشعر الإنسان تماماً أن نسمات من الهدوء تأخذ مسارها إلى أنفاسه، قطفات من الأريحية وراحة البال، ولا أجمل في الصلاة عند الختام، تسلم على عالم اليمين فتقول "السلام عليكم ورحمة الله" ثم تدير رأسك إلى اليسار لتسلم على الجانب الآخر من العالم وترسل إليه السلام..
 

عادت الهواجس لتسرقني بعد صلاة الفجر من جديد، تسرقني من كل شيء: هل يا ترى سيُنشر الخبر؟ خبر أن باهوز لم يُقتَل؟ وذلك بعد أن تحدث هو نفسه معي!!
خاصة بعد أن لم ينشر نفي الحزب لمقتله في اليوم الأول من خبر مقتله، باعتبار أن النفي لم يكن في بيان رسمي!
 

إذا لم ينشر بأي حجة كانت فأنني سأفقد مصداقيتي كصحفي، عند باهوز أولاً، وعند الكثيرين غيره، بل الأدهى عند نفسي قبل باهوز وقبل الآخرين، وحينها سوف لا تشفع لي أية مصداقية سابقة، هكذا هي الصحافة..
 

إذا نُشر ماذا ستكون ردود الفعل؟! وأنا في تركيا!!
أول هذه الردود ستكون من الأوساط التركية، وقد تتهمني بعضها بالتعاطف مع حزب العمال الكردستاني الإرهابي بنظرهم، وقد لا تكتفي بذلك بل ترسل اتهامها لي إلى مؤسستي؛ إلى الجزيرة، والأمر الذي طالما كان سابقاً، ذلك دون مراعاة أنني صحفي، وأي صحفي يحترم مهنته ويكون في محلي سيتسابق إلى خبر من هذا النوع..
 

أوصلتني هواجس الليل إلى الصباح..
الساعة الثامنة صباحاً ولم يُنشر الخبر..
أخذني حُسن الظن إلى: أنني أرسلت الخبر بعد منتصف الليل، وربما لم يكن هناك من مستلم للخبر أصلاً، أو لم يُفتح البريد الالكتروني الخاص بنقل الأخبار العاجلة، خاصة أنه لم يتبع ذلك اتصال هاتفي لي بهم، فالوقت كان متأخراً..
 

حسناً، سأتحرك على مستوى آخر، زميلي جان حساسو في اسطنبول، مراسل في الجزيرة تُرك، سبق وعملنا معاً في اربيل، حينها كان مراسلاً لوكالة دوغان، ومن ثم محطات تلفزة تركية مختلفة، إلى أن استقر في الجزيرة تُرك، هو مهتم جداً بأخبار حزب العمال الكردستاني، وكثيراً ما اتصل بي للحصول عليها..
 

بحثت عن رقمه، لم تمنعني ساعات الصباح الباكر عن الاتصال، فلا أتحرج منه، اتصلت على رقمه..
– مرحباً جان..
– أهلاً احمد، ما أخبارك..
– جان تتذكر خبر مقتل باهوز..
– نعم أكيد..
– أنت حينها اتصلت بي للتأكد مني حول موقف حزب العمال من الخبر، وقلت لك بأن الحزب ينفي..
– نعم، نعم أتذكر..
– وماذا بعد أن تحدثَ معي باهوز؟
– باهوز نفسه؟!!
– نعم هو نفسه..
– هل تأكدت من صوته..
– باهوز ليس شخصاً مجهولاً بالنسبة لي..
– ربما شخص آخر يريد أن يوهمك..
– لا.. باهوز نفسه.. وقد تحدث معي في تفاصيل هو يعرفها عني لا غيره..
– هل ائخذ الخبر منك، وعلى لسانك..
– بالتأكيد.. خذ الخبر وأنا مصدره وأتحمل مسؤوليته..
– لكن الجزيرة العربية هل أخذت الخبر؟
– ليست، بعد.. لا زلنا في الثامنة والنصف..
– هل نأخذ قبلها ؟..
– لا يهمُني من يأخذ أولاً.. ما يهمني هو أن يتم نشر الخبر لأنني أنا مصدره..

ذهب جان وعاد بعد ربع ساعة، قائلاً إن الجزيرة تُرك لا يأخذون الخبر إلا بعد أن تنشره الجزيرة العربية، وكذلك حتى الجزيرة الانكليزية لا تأخذ قبل الجزيرة العربية..
 

إذن لم يبق إلا أن اتصل بالمدير نفسه، فهو المنقذ في مثل هذه الحالات، رغم أنه أيضاً في إجازة، لكن لا مشكلة فهو أفضل من يعرفني، ويتفهمني، أرسلت رسائل عبر الفايبر إليه، كانت تحمل عتاباً بسيطاً حول تأخير نشر الخبر، لم أنته من قراءة رسائل الفايبر التي تردني من المدير حتى رأيت الخبر في نشرة هذا الصباح قبل أن تنتهي ساعتها وتصل إلى التاسعة..
 

وكأنه لأول مرة تنشر لي الجزيرة خبراً، رغم أنني أعمل معها منذ أربعة عشر عاماً، فلا زلت اشعر بلذة نشر الجزيرة لأول خبر لي وبعدي لم أصبح مراسلاً لها صيف 2003، حينما رأيت خديجة بن قنة تقرأ الخبر على الشاشة شعرت وكأنني أطير فرحاً في السماء، حينها كان خبراً عن الجماعة الإسلامية في كردستان العراق، لذة الشعور بنشر الخبر الآن لم تكن تقل عن الخبر الأول..

تركت الفايبر ناسياً توديع المدير، أعدت الاتصال بجان..
– جان..
– أهلاً أحمد..
– هل تشاهد الجزيرة؟
– ماذا فيها..
– الخبر.. نُشر.. انظر إلى السكرول..
– هل هذا صحيح ؟!.. إذن سننشره حالاً في الجزيرة تُرك.. والانكليزية أيضاً..

انتشر الخبر كانتشار النار في الهشيم، لم يبق إعلام تركي دون أن ينشر الخبر، وفي جميعها أشاروا إلى الاتصال الهاتفي لباهوز آردال معي، وانهالت الاتصالات التي وصلت لأكثر من ستين اتصال هاتفي، وخمس وأربعين اتصال عبر الواتس آب، ومثله عبر الفايبر، 90% منها كانت من تركيا، والبقية من اربيل والسليمانية، وجاءتني أيضاً اتصالات من تحرير الجزيرة في الدوحة..

وكالة الأناضول، التي كانت قد نشرت خبر مقتله من مصادر داخل سوريا، باستهداف سيارة لموكب باهوز في ريف الحسكة يوم 9-7-2016، كانت من أكثر وسائل الإعلام التي تضايقت من نشري للخبر، وتحركت على كل المستويات في الجزيرة لترسل عتابها، بدءاً مني أنا ناشر الخبر وصولاً إلى التحرير في الجزيرة.. حيث اتصل بي أحد مسؤوليها في اسطنبول..

– سيد أحمد..
– نعم..
– أنا… من وكالة الأناضول..
– أهلاً وسهلاً..
– أنت نشرت خبر أن باهوز حي..
– نعم أكيد..
– لكنه قُتِل..
– هو تحدث معي..
– كيف تستطيع تأكيد أنه صوته..
– أنا احترم عقلي.. وأعرف من هو باهوز.. وأعرف أنه تحدث معي..
– لا ربما شخصٌ آخر..
– أنت حر.. لا تأخذ بالخبر.. هذهِ ليست مشكلتي.. المهم بالنسبة لي هو الجزيرة التي تصدقني والتي نشرت الخبر.. لا يهمني غيرها تصدق أو لا تصدق..
 

أنا قبلت الحديث معك باعتبارك صحفي، الآن خرجت من كونك صحفي، تحولت إلى محقق وقاضي، وأنا لا اقبل بهذا.. لهذا سوف أتوقف هنا بالحديث معك.

تكررت اتصالات من زملاء أعرفهم وتربطني بهم علاقات صداقة جيدة من وكالة الأناضول، تحركت الاتصالات من وكالة الأناضول بي باتجاه مسار إشارة الساعة من اليسار بدأت متحركة نحو اليمين، من اسطنبول، ثم أنقرة، دياربكر، أربيل، كلها أعادت نفس الأسئلة، وجرى نفس الحوار..

بعد أن اتصل المسؤول في وكالة الأناضول بالجزيرة، اتصلت بي الجزيرة لتقول بأنه سيتحدث معي! قلت لها بأنه تحدث معي صباحاً، قالت: لا مشكلة سيُعيد الاتصال، قلت أهلاً وسهلاً..

– السيد أحمد..
– أهلاً..
– اتصلنا بزملائنا في سوريا، إنهم يؤكدون بأن باهوز آردال قد قُتل..
– وأنا ما شأني بذلك..
– أنت نشرت خبر بأنه حي..
– نعم هو حي يرزق..
– وما دليلك على ذلك؟
– الأولى أن تثبت أنت بالدليل أنه قُتِل، أنت سمعت من مصادر لك بسوريا أنه قُتِل.. هل رأيت جثته؟ أو صور لجثته؟.. أنت نقلت خبر مقتله من مصادر وتستطيع نقل خبر أنه لم يقتل من مصادر أيضاً..
– لكنك متعاطف مع حزب العمال الكردستاني الإرهابي، هذا ظاهر من صفحتك في الفيس بوك، كيف لصحفي أن يكون متعاطفاً مع إرهابيين..
– أنا قبلت الحديث معك باعتبارك صحفي، الآن خرجت من كونك صحفي، تحولت إلى محقق وقاضي، وأنا لا اقبل بهذا.. لهذا سوف أتوقف هنا بالحديث معك.. وأرجو أن لا تعيد الاتصال بي.. وليس أمامك إلا أن تثبت بأن باهوز قُتِل فعلاً.. هذا فقط هو المطلوب منك، ليس شيئاً آخر..
وتستمر القصة..

القادم: الجزء الثالث، استمرار الردود..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.