شعار قسم مدونات

بؤس الظاهرية الجدد

blogs - quran

تتجاذب الخطاب الديني اليوم قراءتان، أمّا الأولى فهي القراءة الظاهرية الحرفية التي يطلق الشيخان محمد الغزالي ويوسف القرضاوي على أصحابها لقب الظاهرية الجدد، وأما الثانية فهي قراءة المعطلة الجدد من أصحاب الرؤية المقاصدية الإرجائية الذين يتخذون من المقاصد ذريعة لتعطيل الأحكام وتجميدها.

ولقد أفضى النظر في ذلك إلى التوسّل بنصوص تأسيسية أصبحت شاهدا على بؤس العقل الحرفي والتحريفي الذي يهدر قيمة السياق والبعد التداولي في تناول الخطاب ، فيسقط أوهام النموذج والمنشود على ضيق الواقع المتصدّع بخطاب عاجز عن استيعاب متغيّرات المقام وأبعاد اللفظ والتلفّظ.

دارس النّصوص الدّينية في حاجة للتعرّف على نظرية الأفعال الكلامية عند فلاسفة اللغة التحليليين لإدراك علاقة المتخاطبين بالسّياق وأنواع الأفعال الإنجازية.

إنّ رسوب الخطاب الظاهري عند حدود السند والمتن، واستناده إلى سلطة الصحيح والمتواتر، أوقعه في إحراجات عند تنزيل الأحكام، فسرعان ما يعرض تبريره ورده على من يخالفه في ذلك بالخوف من الغرب و رغبة إرضاء التيارات العلمانية.

ومن أبرز النماذج المعبّرة عن بؤس القراءة الحرفية، طريقة التعامل مع هذا الحديث عن ابن عمر – رضي الله عنهما – : أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال" بُعِثْتُ بين يَدَيِ السَّاعة بالسَّيف، حتى يُعبَدَ اللهُ وحدَه لا شريك له، وجُعِلَ رِزْقي تحت ظلِّ رُمْحي، وجُعِلَ الذَّلُّ والصَّغار على مَنْ خالَف أمري، ومَنْ تَشَبَّهَ بقومٍ فهو منهم".

فجعل السيف رحمة في الخطاب التكفيري اليوم لإقامة الحدود ومواجهة الخصوم بقوة وعنف فكان رمز الجماعات القتالية وأداتها في نشر الإسلام وإقامة الدّولة ونصرة الشريعة، و يدعم ذلك الحديث الآخر "تسمعون يا معشر‏ ‏قريش ، ‏أما والذي نفس‏ ‏محمد ‏ ‏بيده‏ ‏لقد جئتكم بالذبح".

وفي الوقت الذّي يتوقّف فيه روّاد الظاهرية الجدد عند مبدأ الصواب والخطأ والتجريح والتعديل، فإنهم لا يلتفتون إلى معطيات اللّغة في مستوى خصائصها وأغراضها وعناصرها، فيحوّلون الصّواب إلى خطإ، والخطإ إلى صواب، ذلك أنّ اعتبار الدّرس اللساني اليوم رجسا من عمل الغرب، والنّظر إلى تحليل الخطاب باعتباره علما لا ينفع وجهلا لا يضرّ، جعل الفكر الإسلامي راسبا في السّطحية إلى حدّ السّذاجة أحيانا.

في حين أنّ دارس النّصوص الدّينية في حاجة إلى التعرّف إلى نظرية الأفعال الكلامية عند فلاسفة اللغة التحليليين أمثال أوستين وسيرل وفتجشتاين وجرايس، لإدراك علاقة المتخاطبين بالسّياق ، وأنواع الأفعال الإنجازية، إذ تعتبر بعض الأقوال إنجازا بمجرّد التلفظ بها، ومنها أفعال الوعد والوعيد والأفعال السلوكية التي تفيد الاعتذار والشكر، فيمكن الاكتفاء بها قاعدة للتواصل دون أن تقتضي فعلا مباشرا.

والمعتبر في فهم الخطاب وتحليله هو الحالة النفسية التي عليها المتكلم، وأوجه الاختلاف في غاية الفعل الكلامي، فقد يكون المقصود هو مجرد التهديد أو التحذير، لا تشكيل قاعدة تشريعية بالعبارة المنجزة، ففرق بين القول "جئتكم بالذبح"و"بالذبح جئتكم" .

و هناك فروق بين المعالجة النحوية الشكلية للكلام باعتباره خطابا تقريريا تشريعي، والمعالجة التداولية التي تنظر في الخلفيات المشتركة بين المتخاطبين ودور قوانين الخطاب في ذلك من جهة التخويف والترهيب، وبلوغ التسامح والعفو أقصى درجاته حتى انقلب الحليم غاضبا ومتوعدا.

وفي توعده اتجاه للمخاطب بعينه دون غيره من" أهل قريش" واعتبار للمقام دون سواه وهو "الطواف بالكعبة"، فثمة فرق حينئذ بين الأقوال التقريرية والأقوال الإنجازية، إذ لابدّ أن يتوفر الأمر على شرط الإرادة والقصد ، وشرط الاستعلاء والالزام وشرط القدرة والإنجاز.

متى يتحوّل الفكر الإسلامي اليوم من الزهد في القراءة اللسانية وتحليل الخطاب إلى اعتبارها قاعدة أساسية في فهم النصوص.

ولا يمكن أن نغفل عن السياق التلفظي شفويا، فبأيّة درجة صوتية وأيّة نبرة خطاب كان التواصل؟، فهل مقصد المتكلم هو مجرد الإعلام والإخبار أم يروم الإنجاز والفعل فورا أو لاحقا؟

إنّ بؤس هذه القراءة الحرفية لا يقلّ ضعفا عن هشاشة القراءة المقاصدية عند المعطلة الجدد الذين يميّعون اللفظ فيجعلونه واسع الغايات والمرامي حتى تتعطل معه كلّ الدلالات الممكنة، فيظلّ الفعل متأرجحا بين سماء المثال والسمو وعجز الواقع والمقام، فلا تتحقق من المعاني المباشرة إلا ظلالها، لتصبح كلّ الدلالات مستعصية ومؤجلة ومنافرة للإنجاز.

ولعلّ الأرجح الآن أن يجنح البحث إلى النظر في تأويلية الخطاب وفق مقاربة تفهميّة تجمع بين الدلالات المباشرة والمقاصد البعيدة ، وتتأوّل أهداف الخطاب وممكناته لحظة إنشائه وعند تنزيله، دون إهدار لضرورة الفعل أو التأجيل.

ويحتاج التأويل إلى استنفار مختلف العناصر الحاضرة والغائبة ويستدعي مفردات اللغة بقدر ما يتفاعل مع مفردات الواقع والتوقع ، إذ الهدف هو أقرب إلى استجلاء طبيعة الخطاب ومراميه التي تتجاوز المعاني الأولى الحرفية إلى المعاني الثواني ، وذلك ما يخلصنا من محبس الدلالة الواحدة إلى الدلالات المتعددة التي يسمح بها سياق اللغة بقدر ما يسمح بها سياق الواقع المتحوّل.

فمتى يتحوّل الفكر الإسلامي اليوم من الزهد في القراءة اللسانية وتحليل الخطاب إلى اعتبارها قاعدة أساسية في فهم النصوص ،وتفهمها تجاوزا للمنطق النحوي الشكلي إلى المنطق التداولي الدقيق و القراءة التأويلية الواسعة؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.