شعار قسم مدونات

الفلسطيني الذي لا ظهر له

blogs - palestine boy
يولد الفلسطيني يتيماً في الشتات، من أب وأم على قيد العيش، فقد جرّدهما فقد الوطن من معنى الحياة.. قالوا "لكل الناس وطن يعيشون فيه، أما أنا فلي وطن يعيش فيّ".. وصارت أول شعار ينقشه الفلسطيني على جدران المخيم بعد أن يتعلّم الكلام.
 

يولد الفلسطيني يتيماً كلما أحيا ذكرى المجازر، ولقّن أطفاله أخبار النكبة والنكسة.. كلما لعب صغاره في بهو بيت تغطي جدرانَه صورٌ بالأبيض والأسود للجد الشهيد، والخال المهاجر، والعم المقيَّد في سجلات المفقودين.
 

يكبر الفلسطيني ودمه مجبول بالغضب.. يُسافر، يُحب، يُنجب ويفرح.. لكن غضبه يبقى كبركان ثائر ينازعه تفاصيل أيامه

يتفقد الفلسطيني يُتمه كلما تطاولت السنين، وصدحت إذاعات مدارس الأونروا برثاء الشهداء، وإدانات المجازر، وكلما صبّت اللعنات على جزّاري "صبرا وشاتيلا" و "تل الزعتر"، بينما بقي القاتل دون عقاب، وصار شريكاً في العروبة والنسب.
 

يكبر الفلسطيني ودمه مجبول بالغضب.. يُسافر، يُحب، يُنجب ويفرح.. لكن غضبه يبقى كبركان ثائر ينازعه تفاصيل أيامه، نافراً على جلده كختم شحيح على وثيقة السفر، يتحول غضبه المجبول بالعجز إلى ثورة على "كرت المؤن" ومساعدات المانحين، وسلوكاً متنمّراً في أحاديث التاريخ والسياسة.
 

يكبر غضب الفلسطيني كلما جرت كلمة فلسطين على ألسنة السياسيين، فهذا اتخذها شعاراً في خطاباته النارية، وذاك خاض من أجلها حروباً لم تحرر شبراً من الأرض، ومنهم من أطلق من أجلها الوعود، وآخرون أقسموا أن يكسروا حصارها، ثم طعنوا من كسر الحصار في الظهر.
 

في البداية.. يشعر الفلسطيني أمامهم بالامتنان، يرفع أعلامهم وصور قادتهم، يطلق أسماء الزعماء والرؤساء المغاوير على أطفاله.. ابنه الكبير سمّاه عبد الناصر، أوسطهم صدّام، الصغير المدلل يحمل اسم السيد حسن، أما آخر العنقود فاختار له اسماً اعجمياً؛ أردوغان.
 

تدور الأيام، وتتبدل الصور والأعلام من على جدران منزله مع كل خيبة أمل خلّفها زعيم، أو هزيمة أو تخلّي أو تطبيع مع المحتلّ.. تتنكّس كل الأعلام ويبقى علم فلسطين وصور الشهداء.
 

يكبر الفلسطيني نمروداً لا يعجبه أحد، كما كانت تقول جدتي ونحن نلعب في فناء البيت، فنتشاجر ويعلو صراخنا، فتنهرنا "كلكم زعما يا ستي".. نحن كذلك يا جدتي، لأننا كبرنا دون وطن، دون ظهر، دون زعيم يوحدنا ولو بقهر السيف.. صار لنا اليوم رئيس، لكنه ككل العابرين من زعماء، يلوك اسم فلسطين كما تفعل باغية على طريق عام، "نكد" عبّاس في وجه شعبه، ضحوك وكريم أمام خصومه.
 

قد يتحرر الفلسطيني من بندقية المحتل وقبضة المخيم، لكن فلسطينيّته تبقى معه كالقدر، يحاصر في مطارات العالم وعلى أبواب السفارات، تُحشر هويته في الصراعات الأمنية والطائفية في كل الاقطار، يكون أول من يدفع فاتورة الحرب والتهجير، وحين تتوزع حصص التوطين وإعادة الإعمار لا يجد حتى من يضع اسمه على قائمة الانتظار..
 

ليس الفلسطيني ذكياً أكثر من غيره، لكن ذاكرة اليتم الطويل صاغت وجوده

تُتخم ذاكرة الفلسطيني بأسماء الأسرى والمفقودين، تطفح رزنامته بذكرى المجازر، وينتعش مخياله بأحلام العدالة والقصاص.. لكنّ أحداً لا تعنيه كل هذه الذكريات، فلا زعيم يقامر بمستقبله السياسي من أجل العدالة، ولا سياسي يستثمر علاقاته القوية لتحسين ظروف حياته.. إن ارتكب جُرماً في الشتات فهو فلسطيني ناكر للجميل، وإن حقق ظفراً فهو منسوب للوطن المضيف لا محالة.
 

تتلخص سبعة عقود من حياة الفلسطيني بمفردة اليُتم، فهو يعرف معنى أن يولد بلا ظهر أو سند، وأن يتعلم كيف يكون هو الظهر وهو السند.. أن يتحامل على قهره وغضبه، وأن يعيش كافراً بكل الزعامات التي من أجلها يصفق العرب.. ليس الفلسطيني ذكياً أكثر من غيره، لكن ذاكرة اليتم الطويل صاغت وجوده.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.