شعار قسم مدونات

العودة من حلم منروفيا (1)

blog منروفيا

الثانية والنصف ظهرًا بتوقيت مونروفيا، في فندق صاحبه لبناني، مدير المنظمة التي أعمل معها من أهل البلد المحليين؛ يساري حقوقي عمل في الحكومة ثم استقال. من الصعب جدا أن تكون بعيداً عن الحكومة في أفريقيا مهما حاولت الحياد.

 

كان يومًا شديد الحرارة في ليبيريا، وكنت أنا الطالبة السعودية الواصلة للتو أحاول التقاط التفاصيل من حولي بينما يستمر الحوار بين المواطن الليبيري والشقيق العربي. وأتسائل: هل ترجلت للتو من حلم في شقتي بمانهاتن أم أنني في موسم الحج بجدة؟

 

من أبرز ما لفت نظري هو التشهير بالمغتصبين في دولة تعد عاصمتها الأفقر في العالم؛ بينما يستمر العنف ضد المرأة في العالم العربي.

كيف وصلت إلى هنا؟  لقد تورطت في هذه التجربة الثرية في ليبيريا ،ذلك البلد النائم على كتف المحيط في غرب أفريقيا.. لم يكن السفر يوماً شيئا تسهل الكتابة عنه، تكثر العناوين التي برأسي.

 

لأبدأ قبل السفر..
عن المطاعيم ونصائح الأطباء الكثيرة، عن قلق أمي الذي لم ينم بعد، عن الهبوط في مطار من ثلاث غرف، عن العرب الذين وصلوا إلى ليبيريا وسطروا قصة نجاح جديدة في المهجر، عن النساء والأطفال والعنف الذي لاينتهي حتى بعد انتهاء حربين أهليتين، عن حركات المجتمع المدني وكيف تحاول اليد الواحدة أن تصفق حتى ينتبه إليها أحد.

 

عن التعايش الديني كيف يكون قبل الحرب وبعدها، عن التعليم الهش، عن التشهير بالمغتصبين في دولة تعد عاصمتها الأفقر في العالم بينما يستمر العنف ضد المرأة في العالم العربي، وعن حديث ينتهي بأننا قد نجد أنفسنا خارجين من حلم أفريقي لم أفق منه تمامًا حتى بعد عودتي من ليبيريا.

 

بدأت التحذيرات المقلقة من مكتب عيادة الجامعة. لازلت أتذكرها، طبيبة أمريكية بيضاء في الخمسين أو منتصفه،كررت على أذني السؤال عن سبب سفري إلى ليبيريا. بدا السؤال كفاكهة بين كل تحذيرين؛ حذرتني من كل أصناف الطعام تقريباً، شددت على عدم الأكل خارج المنزل "إنهم ياكلون النّيء وأحيانا القرود"، عليك أن تصبري عن ممارسة الجنس فالأمراض هناك كثيرة. ضحكة صفراء ساخرة بانت على وجهي. تبعتها قائمة المطاعيم من التهابات الكبد انتهاءً بالحمَى الصَفراء.

 

أخبرتني عن خدمة تقدمها الجامعه لكل طلابها، إذ من حق الطالب أن يتم نقله إلى أقرب دولة توفر خدمة طبية لائقة في حال التعرض لأي انتكاسة صحية حرجة، وكان يومًا لا أنساه.

 

حذرتني أيضاً من بيروت بعد أن أشرت إلى أنني متجهة إلى ليبيريا من هناك، لم أتمالك الضحك وأنا أقول: "بيروت مدينة عربية، لا خوف عليّ هناك"

 

مشرفتي المباشرة بحرارة الطليان وبحرص أكبر على طالبتها: "رناد ، هل تشعرين بالأمان وأنت متجهة إلى ليبيريا ؟ "

– نعم أستاذتي.

– لماذا لم تذهبي إلى خيارك الآخر، كمبوديا؟

– أعلم أن كلتا الدولتين خرجتا للتو من حرب أهلية، لكنَي أفضل تجربة ليبيريا .

– فقط للتذكير: لست مضطرة للبقاء إن أحسست بعدم الأمان، لا تشعري بالحرج أو الحاجة للتبرير.

– سأفعل وأشكر حرصك أستاذتي.

 

على نافذة استفسارات السيد جوجل لم يكن هناك الكثير عن منروفيا، عاصمةٌ على المحيط في رابع أفقر دول العالم، معدل دخل الفرد الشهري لايتجاوز ال ١٨٠ دولارا أمريكياً، حربان أهليتان مهلكتان، أمراض بالجملة، بلد بني على أكتاف الأمريكان السود الذين هربوا من العبودية ليعودوا مضيفين بلداً جديداً على القارة الشمس "ماما أفريكا" .

 

احتفلت ليبيريا بعيد استقلالها ال١٦٩، وقد دخلت حربين أهليتين، حاليا الأمم المتحدة هي من يدير السلام والأمن هناك في عامها الأخير،  لتقوم بتسليم المهمة لقوات الأمن المحلية.

وأخيرًا .. مونروفيا :

أن تكون منروفيا العاصمة الأفقر في العالم لايعني أنك سترى الأطفال ناحلين حد الموت كما يقدم لنا الإعلام صورته النمطية عن الأفريقي. على العكس من ذلك، فالسمنة أمر ملحوظ في البلاد ولا علاقة بين الجمال أوالأناقة وبين الفقر.

 

كما لا يعني تدني مستوى المعيشة أنك كأجنبي ستصرف القليل من المال، فكل المجمعات السكنية، الدكاكين، والمطاعم التي يتردد عليها الأجانب تقدم سلعاً غالية وقد تصل لما يقارب أسعار منهاتن.

 

كان يتوجب علي أن أعمل في الفصل الصيفي بمجال تخصصي الدقيقين "سياسات إنسانية وجنسانية"-  Humanitarian Policy و Gender and Public Policy. كانت الخيارات مفتوحة أمامي، بدأت بالتقديم منذ وقت مبكر وجل تركيزي على الدول النامية في آسيا وشرق أفريقيا، وفي مرحلة حسم القرار، كنت بين أربع خيارات، وكما هو واضح فقد وقع اختياري على ليبيريا.

 

في بدايات القرن التاسع عشر بدأت عملية اعادة العبيد المحررين من الولايات المتحدة الأمريكية لاستعمار منطقة في غرب أفريقيا بدلا من إعادتهم إلى بلدانهم الأصلية وبمساعدة منظمة خاصة تدعى جمعية الاستعمار الأمريكية اعتقدت بأن العبيد السابقين سيحصلون على المزيد من الحرية والمساواة في أفريقيا٬ هكذا نشأت ليبيريا والتي أتت من مفردة "الحرية".

 

احتفلت ليبيريا بعيد استقلالها ال١٦٩ في السادس والعشرين من يوليو الماضي، دخلت حربين أهليتين انتهت الأخيرة في عام ٢٠٠٣م، ومنذ ذلك الحين والأمم المتحدة هي من يدير السلام والأمن هناك، وأعلنت مؤخرًا أن هذا العام هو الأخير لمهمتها لتسلم قوات الأمن المحلية مهمة السلام.

 

في ٢٠٠٦ فازت إيلين جونسن بالرئاسة لتصبح أول امرأة ترأس ليبيريا، وفي ٢٠١٤م وضع وباء الإيبولا الدولة في حالة الطوارئ مجددًا ومات بسببه ٤٨٠٩ بحسب رواية المحليين ، كما كانت الجثث منثورة في الشوارع.

 

كان كل ذلك كفيلًا بجعل ليبيريا محل اهتمام بالنسبة لي لبدء العمل فيها، حيث تشكل بيئة ثرية خصوصا لمجال دراستي والتي أركز فيها على دراسة الحالات الإنسانية وتحديدًا العنف الجنساني (جسديًا ونفسيًا وجنسيًا)  GBV Gender-based Violence في حالة بناء السلام ومابعد الصراع والحروب.

 

الليلة الأولى:

وصلت ليبيريا في الرابعة والنصف فجرًا، وفي المطار كانت البداية. لا أعلم إن كان يعد مطارا بالمفهوم المعتاد، فهو عبارة عن ثلاث أو أربع غرف/صالات. عندما قابلت الموظف الأول، ابتسم وقال: هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها جوازًا سعودياً، أهلاً بكِ!

 

كجداوية تعرف عواقب المطر، كنت منبهرة بعدم غرق هذه المدينة الفقيرة والشاهدة على كلّ الفساد الحكومي.

ذهبت لكي أبحث عن مكان استلام الحقائب ولكن لصغر المطار؛ لم يكن هنالك داعٍ للبحث، تفتيش الحقائب كان يدويًا، ومجدداً، أبدى موظف التفتيش دهشته من وجود سعودية في ليبيريا. لم يكن واضحًا إن كان هذا أمرًا حسنًا أم لا؛ هل يعني هذا أن الصورة النمطية التي اعتدت مقاومتها كسعودية في أمريكا ستختفي أم تتضاعف؟ هل سأكون محظوظة بأنه ليس ثمة تصور مسبق عني أم أنها ستكون أياماً متعبة؟

 

غادرت المطار إلى السيارة التي ستقلني للفندق، منظر سقوط المطر كان مهيباً، ساعتان في الطريق إلى المدينة، الشوارع مظلمة ولا شيء سوى أنوار السيارات وصوت المطر الشديد.

 

المطر لم يتوقف، الحقيقة أن المطر هناك قد يكون خلفيتك الصوتية في العمل ووقت النوم، و رغم أنها لم تمطر يوميًا كما توقعنا، لكنّه كان أقوى مطر نشهده..

 

الفرق بيني وبينهم، أنني كجداوية تعرف عواقب المطر، كنت منبهرة بعدم غرق هذه المدينة الفقيرة والشاهدة على كلّ الفساد الحكومي. كنت أسأل مديري وزملائي الليبيرين كلما اشتد المطر إن كان يجب علينا تجنب الخروج، وفي كل مرة يضحك الجميع. تتضرر بعض البيوت، لكن لا أحد – هنا –  يموت من المطر.

 

كأشياء كثيرة في ليبيريا، لا يمكنك التنبؤ بالطقس وهذه إحدى أول دروس المطر !
 
undefined

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.