شعار قسم مدونات

خداع النفس .. من المخابرات الأمريكية إلى الإسلاميين

blogs - Egypt - Shater
في أحد أيام عام 1962 تواصل أحد أعضاء الوفد السوفيتي في الأمم المتحدة في جنيف مع الوفد الأمريكي و عرف نفسه كضابط الأمن المصاحب لوفد السوفيتي واسمه يوري نوسينكو و طلب التواصل مع المخابرات الأمريكية.

وكان المعروف وقتها أن ضابط الأمن المصاحب للوفود الدبلوماسية يكون ضابطا في الكي جي بي. وبالفعل اهتمت المخابرات الأمريكية بالأمر و أرسلت اثنين من ضباط قسم مكافحة التجسس أحدهم هو تينيت اتش باجلي و الذي ألف كتابا مستفيضا يشرح قصة هذا المنشق.

رد فعل قيادة المخابرات الأمريكية كان عجيبا لقد رفضوا اعتماد النتيجة التي توصل إليها قسم مكافحة التجسس رغم أن العمل الأساسي لهذا القسم التحقيق مع المنشقين

بدأ نوسينكو يعطي معلومات عن أحداث معينة وضباط مخابرات سوفيت يعرفهم الأمريكيون ليدعم مصداقيته. كما أعطى تفسيرات لعمليات كشف السوفيت من خلالها عملاء أمريكيون لم تكن الوكالة تعلم كيف تم كشفهم و يعارض معلومات كان منشقون سوفيت سابقون عليه -وتأكد الأمريكيون من صدقهم- قد قاموا بتقديمها.

استغرق إستجواب يوري عدة سنوات وبمراجعة إفاداته وإعادة التحقيق في بعض النقاط تبين وجود تناقض في رواياته و توصل قسم مكافحة الجاسوسية إلى قناعة بأن يوري نوسينكو مدفوع من المخابرات السوفيتية لتضليل الأمريكيين و ربما – و هو الأخطر- للتغطية على وجود عميل سوفيتي بين ضباط المخابرات الأمريكية.

لكن رد فعل قيادة المخابرات الأمريكية كان عجيبا لقد رفضوا اعتماد النتيجة التي توصل إليها قسم مكافحة التجسس رغم أن العمل الأساسي لهذا القسم التحقيق مع المنشقين و نقد رواياتهم لمنع السوفيت من خداع المؤسسة الاستخبارية الأمريكية و قاموا بتشكيل لجنة لإعادة استجواب نوسينكو بقيادة ضابط معروف بميله إلى أن نوسينكو مصدر أصلي حقيقي و ليس مجرد خداع.

وبدأت الأمور تأخذ خطا هزليا حيث قام هذا الضابط باستجواب نوسينكو عن طريق طرح أسئلة عليه بصورة تدعم صدق روايته أصلا و تزيل التناقض عنها و تدعم التفسير البسيط الذي يجعل تقييمه في النهاية صادقا.

وخلصت اللجنة المشكلة في النهاية إلى أن هذا المنشق حقيقي و صادق و يمكن الإعتماد عليه . و لقد إعتمدت عليه المخابرات الأمريكية فيما بعد إلى حد أنه كان يلقي محاضرات للمتدربين الجدد في مكافحة التجسس.

والضابط بجلي الذي استقبله في البداية واقتنع في نهاية تحقيقه معه أنه مخادع يثير سؤالا مهما في كتابه عن السبب الذي جعل القيادة تتجاهل النتيجة المنطقية التي رفعها قسم مكافحة التجسس لهم و تقوم بما قامت به؟ ويجيب هو عن هذا السؤال بأن هذه النتيجة كانت تؤدي إلى نتيجة أخرى خطيرة و هي أن نوسينكو يهدف إلى التغطية على عميل سوفيتي داخل صفوف الوكالة نفسها هو الذي كشف العملاء السوفيت الذي قام نوسينكو بإعطاء قصص لعمليات كشفهم وهذه بحد ذاتها حقيقة مفزعة أن تنجح المخابرات السوفيتية في زرع عميل داخل هيكل الوكالة الأمريكية بما يعنيه هذا من توابع خطيرة كأسرار تم تسريبها لا تعلم المخابرات الأمريكية عنها شيئا وتحقيقات داخلية واجبة قد تتسبب في حدوث بلبلة في صفوف الظباط وتؤثر على معنوياتهم وبالتالي آثرت القيادة الأمريكية أن تتجاوز هذه الاحتمالات المفزعة إلى الاحتمال المريح وهو أن نوسينكو منشق حقيقي يرغب في التعاون مع الأمريكيين.

عوضا عن وضع خطة لمواجهته آثروا خداع النفس و الركون إلى التفسير الوردي.. فالجيش قد التحم بثورة الشعب ضد النظام القمعي الفاسد بمعجزة ما ودعمها وحماها

هذا ما حدث مع الإسلاميين في مصر و خصوصا جماعة الإخوان المسلمين بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، تعددت القصص التي تم تداولها من خلال وسائط التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام عن تطوع بعض العناصر من المؤسسة الأمنية والعسكرية بنصح الإخوان في المواقف المختلفة بما يجب فعله وما تحضره قيادة المجلس العسكري من خطط و مؤامرات.

الأبرز من هذه القصص كانت عن ضابط كبير في أمن الدولة يتواصل بشكل مستمر مع القيادي المهندس خيرت الشاطر وخلال أحداث محمد محمود التسريبات التي أكدت تحضير المجلس العسكري فخا للإخوان لذبحهم إذا شاركوا وتعاون عبد الفتاح السيسي خلال توليه منصب مدير المخابرات الحربية مع الإخوان والرئيس مرسي ومساعدته في إقالة طنطاوي وعنان دون مشاكل.

حتى قال توفيق عكاشة يوما أن عبد الفتاح السيسي هو رجل جماعة الإخوان داخل المجلس العسكري. بالطبع وجود هذه الروايات على مواقع التواصل الاجتماعي وانتشارها لا يعطي لها المصداقية الكاملة ولكن كما يقول المثل العامي.. لا يوجد دخان من دون نار، كما أن الثقة الشديدة التي كانت قيادة جماعة الإخوان تبديها في استقرار الوضع و علاقتها بقيادة القوات المسلحة تشير بشكل ما إلى صحة هذه القصص.

هنا تأتي المفارقة المفترض أن تطوع عناصر من القلب الصلب لدولة مبارك التي ثار عليها المصريون للتعاون مع القوة الأكبر في هذه الثورة و إبداء قيادة القوات المسلحة التي هي حامية النظام منذ انقلاب يوليو 52 التعاون والاحتفاء بالثورة أقول المفترض بكل ذلك أن يثير الشك في نواياهم بأبسط قواعد المنطق.

فليس من المنطقي أن يكون تفسير ذلك هو صحة ضمير مفاجئة أصابت المؤسسة التي غرقت في الفساد لما يزيد عن النصف قرن. كان التفسير الأقرب للمنطق أن هذا مجرد انحناء في مواجهة موجة الثورة العالية مع التربص بها لسحقها في الوقت المناسب.. فما الذي جعل قيادة الإخوان المسلمين تدع التفسير المنطقي و تتماهى مع خداع العسكر لها؟

إنه نفس ما أصاب قيادة المخابرات الأمريكية في قصتنا.. كان للتفسير المنطقي نتائج مرعبة من كون مؤسسة القوات المسلحة الضخمة ذات قوة النيران الرهيبة تستعد للبطش بالثورة و الثوار و خصوصا الإخوان السلمين العزل غير المسلحين.

كان هذا السيناريو يتجاوز قدرة هذه القيادة على الاحتمال فهو يعني أنهار من الدماء تصاحب تحرك الجيوش داخليا في المعتاد ربما رأى الإخوان ساعتها ما حدث فعلا بعد الانقلاب العسكري وهو رهيب بما يكفي. لكن عوضا عن وضع خطة لمواجهته آثروا خداع النفس و الركون إلى التفسير الوردي.. فالجيش قد التحم بثورة الشعب ضد النظام القمعي الفاسد بمعجزة ما ودعمها وحماها. آثروا الركون إلى الوهم المريح بدلا من مواجهة الواقع المؤلم.. تماما كما فعل الأمريكيون مع نوسينكو.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.