شعار قسم مدونات

الدين في المجال العام (1)

blogs - mosque
المقال السابق، و الذي جاء تحت عنوان " في نقد الفصل بين الدين و التديُّن" كان يهدف إلى تأكيد الطابع الذاتي للدين، في مقابل الموضوعية التي يفترضها عادةً الفصل أو التمييز بين الدين والتديُّن. ذلك أن إضفاء الموضوعية على الحقائق الدينية يتم بواسطة الإيمان والتديُّن. فالدين المُطلق المتعالي يمثُل في الوعي الإنساني من خلال الفعل الإيماني، إذ لا يُمكن مقاربة ما هو مُطلق ومتعالي إلا من خلال الإيمان، أي من خلال الذاتية وليس الموضوعية.

و بالتالي فإن عبارة "الدين في المجال العام" عنوان المقال الحالي، تبدو عبارة غير دقيقة. فالدين بمعنى المطلق و المتعالي لا يُمكن أن يُوجد بحد ذاته في المجال العام، لأن المجال العام ينتمي إلى التاريخ البشري الواقعي، وليس هُناك ما هو متعالي ومُطلق داخل هذا التاريخ.

الكُتب المقدسة موجودة بالطبع، و لكن الذي يُوجد في المجال العام ليس هذه الكُتب وإنما الفكر الإنساني المرتبط بها إيماناً وفهماً وتفسيراً وعملاً.

على سبيل المثال، عالم السياسة هو عالم تاريخي واقعي، وقائعه كلها تدور هُنا في التاريخ و ليس في السماء. دوافعه ومحركاته ورهاناته وغاياته كلها تنتمي إلى هذا العالم التاريخي البشري، حتى لو كان هُناك بُعد إيماني على مستوى الدوافع أو الغيات العُليا فهو في النهاية ينتمي إلى البشر، لأن الايمان فعل بشري، يُوجد خلال البشر ليس فوقهم و لا مستقلاً عنهم، و كذلك النوايا تُوجد في البشر ، وتنتمي إلى مجال الوعي الإنساني، وليست في الدين المُطلق.

بعبارة أُخرى نيّات البشر ليست هي "نيّة الله" الموضوعية وكذلك دوافعهم وغاياتهم مهما كانت فهي تنتمي إلى الأرض، إلى التاريخ وليس إلى السماء.

في المجال العام الواقعي الموضوعي هُناك بشر، و كل الأفكار والتصورات الدينية توجد من خلالهم. الإيمان الديني يُوجد بواسطة الوعي الانساني بالمعنى العام لهذه الكلمة والذي يشمل العقل والشعور، وبالتالي فإن "الدين" بالمعنى غير المطلق لهذه الكلمة يُوجد متجسّداً في شكل لغة وفكر وخطاب ومؤسسات بشرية، بحيث يُمكننا القول أنه ليس هُناك دين في المجال العام، وإنما هُناك لغة وفكر وخطابات ومؤسسات.

الكُتب المقدسة موجودة بالطبع، ولكن الذي يُوجد في المجال العام ليس هذه الكُتب وإنما الفكر الإنساني المرتبط بها إيماناً وفهماً وتفسيراً وعملاً. وعندما أقول الفهم والتفسير فأنا أعني جميع القراءات وجميع محاولات الفهم والتفسير على اختلافها، وبكل المناقشات الدائرة ليس فقط حول فهم هذه الكُتب المقدسة وحسب وإنما فهم الظاهرة الدينية بأسرها.

في المجال العام هناك هذا الصخب الكبير من الأفكار حول الدين، وهُناك أيضاً الاختلافات والصراعات. فالفكر الذي يحمل اسم "الفكر الديني" ليس هو الترجمة الوحيدة للنصوص الدينية في المجال العام، هُناك ترجمات أُخرى في شكل قراءات وأفكار أُخرى قد لا تحمل الصفة الرسمية ( وفقاً للمفهوم السائد لما هو رسمي) ولكنها مرتبطة في النهاية بالنص الديني كقراءة وكفهم وتنتمي إلى الظاهرة الدينية وتفترض مشروعيتها في العقل والموضوعية.

بعبارة أُخرى جميع الذين يشتغلون على موضوع الدين يساهمون في ترجمته في المجال العام. أما الادّعاء بامتلاك الفهم الحقيقي والحصري عبر تفسير النصوص فهذا جزءٌ من الصراعات المُشار إليها آنفاً لا أكثر.

ليست مهمة هذا المقال الكشف عن، أو تحديد سمات الفكر أو الخطاب الأكثر قرباً إلى "الحقيقة" وأضع كلمة حقيقة هُنا بين مزدوجين لأنها لا توجد بمعزل عن هذا الصراع، ولأن هذا المقال نفسه ينتمي إلى هذا المجال الصراعي، فهو لا يملك سُلطة الحُكم. فضلاً عن كونها، أي الحقيقة، لا تُوجد بمعزل عن الإنسان عموماً، ولذلك فهي دائماً نسبية.

وهذا لا يعني عدم إمكانية الموضوعية، فهي مُمكنة، بل هي السمة الأساسية للمجال العام، فهو مجال موضوعي. ولهذا السبب بالذات لا يُمكن للدين أن يُوجد في هذا المجال إلا كقضية من قضايا المعرفة والفكر أو السياسة، وسيخضع بالتالي للمعايير الإنسانية في تأسيس الحُجية الموضوعية من أجل اكتساب المشروعية المعرفية والاجتماعية (نظرياً على الأقل).

وهكذا يخرج الدين من الذاتية إلى الموضوعية ويفقد طابع التعالي والتجاوُز، لأنه أصبح رهناً للموضوعية وشروطها على المستوى المعرفي. أما على المستوى الاجتماعي والسياسي فهو مرهون بالمشروعية الاجتماعية والسياسية، بمعنى أن الناس من خلال إرادتهم هم الذين يمنحون الدين وجوده أو تحقُّقه السياسي والاجتماعي، مثلما أنهم من خلال عقولهم يمنحونه المشروعية المعرفية، سواء أكان ذلك بشكل ديمقراطي أو بوسائل أُخرى .وهُنا أيضاً يفقد صفة التعالي والتجاوُز لأن الإرادة السياسية والاجتماعية هي إرادة بشرية تاريخية، مثلما أن العقل البشري هو عقلٌ نسبيٌ تاريخي.

الطابع الذاتي للإيمان و التديُّن، والبشري أيضاً، يستمد قيمته من روح الإنسان الحُرة، مصدر وأساس القيم والتقييم.

على أن الطابع البشري و التاريخي للموضوعية لا يعني أنها بلا قيمة، فالعقل الإنساني الموضوعي هو مصدر التقييم فيما يتعلق بالمعرفة، والفكر المرتبط بالدين يبحث عن مشروعيته المعرفية من خلال هذه الموضوعية. وكذلك إرادة المجتمع الحُرة والتي هي مصدر المشروعية السياسية (افتراضاً على الأقل )، على الرغم من أنها ليست هي "إرادة الله" بالضرورة، إلا أنها أيضاً ليست بدون قيمة لمجرد أنها بشرية تاريخية.

في الواقع، إعلاء العقل والموضوعية واحترام الاختيار الحُر للمجتمع، مع الأخذ في الاعتبار الحقوق العادلة للجميع في الحُرية والاختلاف هو الخيار الذي ليس منه بُد.

وبالمثل، فإن الطابع الذاتي للإيمان و التديُّن، والبشري أيضاً، يستمد قيمته من روح الإنسان الحُرة، مصدر وأساس القيم والتقييم. ولكنه، بما أنه ذاتي، فهو يقع خارج نطاق التقييم الموضوعي لأنه حالة ذاتية داخلية تتصل بعمق الإنسان وعالمه الداخلي الغني الفسيح والحُر. وهذه الروح الحُرة بالطبع لا ينبغي أن تكون معزولة ولا محلِّقة بعيداً عن "المجال العام".

في الواقع، الإنسان يعبّر عن روحه عبر مختلف أنواع النشاطات في السياسة والمعرفة والفن وغيرها من الأنشطة. ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر بالموضوعية فإن الفيصل هو المعايير المشتركة والعامة والتي تكتسب سُلطتها من العقل والذي مهما كان نسبياً وتاريخياً فهو الوسيط الأمثل بين البشر فيما بينهم، وبين البشر والعالم والأشياء.

يتبع..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.