شعار قسم مدونات

الهيب هوب: زفرات الهامش

blogs - egypt
قلت لصديقي، هل تذكرت توباك شاكور في ذكرى صعود روحه غدرا للعالم الآخر، بعد أن انتهك الرصاص جسده المتقد ثورة، فذكراه العشرون، حلت الأسبوع الماضي، يوم الثلاثاء 13 سبتمبر؟، فرد قائلا: " وهل يفوت مثلي ذلك الحدث الجلل؟!، تذكرته وأحيت ذكراه، عشت ليلتها أحلق مع صوته الحر الناقم على الحيف والعنصرية، وهكذا أفعل كل ذكرى؛ فتوباك، ملهمي الأول"..

صديقي، عشريني ولد بسنة قبل وفاة توباك عن عمر 25سنة؛ لكنه يمثل كثيرين، تجدهم في كل بقاع المعمورة، ولدوا قبل الذكرى وبعدها وحتى عايشوا ملحمة تمرد توباك، ويستلهمون اليوم من قصته؛ فهو رمز الانعتاق بالنسبة لهم، ومن حبب إليهم الهيب هوب بأجناسه المختلفة : الراب، الغرافيتي، البريكدانس وتنسيق الأغاني، شدهم لتلك الثقافة وغيرها من أنماط التعبير الفني الحر، المنبثقة من الشارع والمنسجمة مع أنات القاع، الماحقة لسلطوية النخب القاطنة في الأبراج العاجية، فتوباك، حالة كونية أنتجتها ثقافة الهيب هوب، لاتزال تتغلغل بسكينة في مسام وجدان البعض.

فن الحاجة والصوت الثائر

ظل توباك يحاول أن يسمع صوته ويقع في المتاعب؛ كتجسيد لحياة السود في أمريكا وقتئذ، حيث جرب السجن والفقر، وبدأ مشوار الشهرة مع إطلاق ألبومه الأول "2 Pacalypse Now "

كانت أنفاس السود في أمريكا تختنق من الظلم وتتطلع لفن يعبر عنها، فن يخرج من أحشاء المعاناة، يكتب ويغني ويرسم وينبض رفضا لرزوح أحياء السود، تحت وطأة ثالوث غير مقدس هو: العصابات الإجرامية، الفقر والعنصرية.

فكان الهيب هوب، فن الحاجة، بدأت ملحمته في بداية سبعينات القرن المنصرم، كانت صرخة الميلاد من منطقة البرونكس ، وجاءت خطوة الخلق الأولى، على يد منسق الأغاني كوول هيرك، وهو مهاجر جمايكي؛ فأبتكر الايقاعات السريعة لموسيقى الهيب هوب أو الراب، بقيامه بفصل ضربات الإيقاع عن الأغاني المسجلة وتمديدها، مستعملا قرصين لتدوير الأسطوانات يشغلان الأسطوانة ذاتها.

وكان معه صديقه كوك لا روك، يستمتع بالنقر فوق الضربات الموسيقية، سريعة التأثير على الجمهور، لتنطلق الحكاية والثورة من تلك الجلسة. ذلك النقر المتواتر لم يقف عند هذا الحد؛ فقد أدى لظهور جزء آخر من ثقافة الهيب هوب هو "البريك دانس" أو البي بويينغ ".

آنذاك، بدأ الراقصون يصممون حركات متناغمة مع وقفات البريك، ثم انتقل الأمر للحدائق العامة، وكانت تعليمات كول هيرك والقوافي والألحان التي ينتج وجو حفلاته وجمهورها، أساسا لبدايات موسيقى الراب-مصطلح الراب هو اختصار ل"الشعر الافريقي المقفى" -Rhythmic African Poetry )-، الذي تطور في ما بعد في مجال النصوص، خاصة في موضوعاته التي ميزتها مسحة سياسية واجتماعية؛ فكانت الكلمات لعبة أبناء فقراء السود، كانوا يخرجون زفرات ابداعية غاضبة، وقد نحت منسق الأغاني أفريكا بامباتا، مصطلح الهيب هوب.

أتى الهيب هوب كثورة في عالم الموسيقى، ثورة ثقافية يطبعها التحرر والانعتاق، وكان له "رسل" صنعتهم المعاناة، وأسطرهم الواقع، من أبرزهم توباك شاكور.

جاء توباك إلى الدنيا عام 1971وهو ابن مناضلة من منظمة حزب الفهود السود، المنظمة المسلحة المناهضة لعنف الشرطة ضد السود في أمريكا، وقد نشطت المنظمة مابين1966 و1982، قدم وأمه تتعرض للمحاكمة بتهمة فاشية، هي التآمر على حكومة الولايات المتحدة الأميركية، تلك المحاكمة التي أخذت زخما هائلا.

كان لوالدة توباك بالغ التأثير في شخصيته، نضالها صقل هويته المارقة، وقد بدلت اسمه تيمّنًا بقائد الثورة البيروفية خوسيه غابرييل توباك أماورو، حيث كان يدعى ليسان باريش كروكس، عاش طفولته متنقلا بسبب نضال والدته، واستقر في مراهقته بمدينة بالتيمور للدراسة في "مدرسة الفن": الموسيقي والباليه، حيث كان قد اكتشف ميوله الفنية في الثانية عشرة.

ظل توباك يحاول أن يسمع صوته ويقع في المتاعب؛ كتجسيد لحياة السود في أمريكا وقتئذ، حيث جرب السجن والفقر، وبدأ مشوار الشهرة مع إطلاق ألبومه الأول "2 Pacalypse Now " الذي أحدث ضجة، جلبت له الكثير من الضغائن واتهم من قبل السلطات بأنه يحرض الشباب وخصوصاً السود منهم على خرق القوانين والعنف.

كان الألبوم تعبيرا غاضبا من سياسات السلطات الأمريكية، لينطلق في مسيرة النجاح ويطلق عديد الألبومات الناجحة وقد بيع له أكثر من 75 مليون ألبوم، ولاتزال ألبوماته، تتصدر المبيعات، تميز توباك في كتابته لأغانيه حتى لقب بـ"شكسبير الأسود". وتحول لأيقونة لتمرد المواطن الأسود، ضد السلطوية الأمريكية في تمثلاتها المختلفة: السياسية ، الاقتصادية والاجتماعية.

ويعتبر الكثيرين أن حدة ما كتب وغنى توباك، كانت سبب قتله في ظروف غامضة، جرب السجن قبل مقتله بعام وهو في أوج ألقه، لكن ذلك زاد توهجه؛ ففي العام 1995، صدر له ألبوم وهو سجين لكنه نجح بأسطورية، وقد حمل عنوان Me Against The World"..

"العرب" والهيب هوب وتوباك
لا تختلف الغيتوهات العربية المسماة زيفا، دولا، عن أحياء الزنوج في أمريكا أيام بدايات الهيب هوب، فالأنظمة العربية تمارس القمع والعنصرية على شعوبها، تحكمهم على نمط العصابات الإجرامية، والفقر والبطالة والتهميش ينخرون هذه الشعوب.

لذلك، وجد الهيب هوب أرضية خصبة في المنطقة العربية، حيث أتي تعبيرا عن رفض الواقع المترهل؛ فكان هناك جوع لفن يعبر عن ذلك الواقع، لأن الأغاني العربية، تدور غالبا في حلقة مفرغة من التكرار، لا يخرج صاحبها عن قصة حبه الضائع أو التغزل بعيون حبيبته العسلية والإطناب في الحديث عن جسد المرأة وعرضه بطريقة تطبعها الذكورية غالبا، وترسخ تشيء المرأة -لست ضد أغاني الحب بالتأكيد وغير مؤمن بوجود فن ملتزم وآخر غير ملتزم، لكن الواقع يحتاج أيضا أن يجد من يتحدث عنه، والحياة ليست مجرد قصة حب ضائعة أو فرح ذاتي بلقاء محبوب-، فحضر الهيب هوب في المشهد العربي مع تبيئته، حضر الكلام المختلف والنقد اللاذع، حضر الهامش والمهمشين، و كان المغربي العربي أو المغرب الكبير هو السباق عربيا للتفاعل مع ثقافة الهيب هوب.

حين يتوطن الهيب هوب في منطقة ما، يكون منطقيا أن يحجز توباك مكانا في مخيلات الكثير من أصواتها.

مثلا، كانت انطلاقة الهيب هوب في الجزائر بداية التسعينات؛ كتفاعل لاحق مع الغضب الشعبي بعد مظاهرات 1988 ضد الغلاء، وكانت له إرهاصات في منتصف الثمانينيات، وتعتبر فرقة "حامة بويز" من أول الفرق الجزائرية بل العربية وتشترك معها فرقة" أم بي أس" في ذلك السبق، ووصل الهيب هوب للمغرب في بداية التسعينات، فيما نجده وفد لمصر بشكل خجول نهاية التسعينات وفي بلدان مشرقية أخرى بعد ذلك أو في نفس الفترة.

وحين يتوطن الهيب هوب في منطقة ما، يكون منطقيا أن يحجز توباك مكانا في مخيلات الكثير من أصواتها، وأعتقد أن ذلك حدث في المنطقة العربية، مثلا، أتذكره حيث أستمع لغضب المصري محمد أسامة، وغنائه عن انتحار المنطق في مصر، وأجد ملامحه في ثورة "الجنرال" أو حمادة بن عمر ضد الفساد في تونس أيام بن على، وحقد معاذ بلغوات على الظلم في المغرب، واشتعال كلمات الفلسطيني طارق أبو كويك المعروف ب" الفرعي" بقيم التوق للحرية ونقد المنظومة الاجتماعية والسياسية في المنطقة.

وحين أستمع لصوت اللهيب الصادق الخارج من قاع موريتانيا، المسمى" سكايب ولد الناس"، ونقده السليط للعسكر والعلماء والسياسيين الذين يتبعون السلطة ويتملقونها، بالتأكيد أتذكر توباك مع الاختلاف الكبير طبعا، فلا أجري هنا مقارنات، بل أجد أن روح توباك تسكنهم، وحين أسمعهم، أتذكر مدى تأثيره والحاجة للهيب هوب وقت ظهوره واليوم أيضا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.