لطالما صعب علي إيجاد إجابة سهلة  ميسرة لسؤال الناس لي حين يروني أرتدي زي الكشافة خاصتي، المزين بالشارات والأوسمة، وألف حول رقبتي منديلا بطريقة مميزة، ماذا تعني الكشافة ؟ أخجل حينما كان يتبادر إلى أذهانهم فور رؤيتي طالب المدرسة الذي يرفع العلم في طابور الصباح ثم يخلع زيه.

حسنا لنعد إلى الوراء حتى بدايات القرن التاسع عشر، حين كان اللورد (بادن باول) محاصرا في معسكره في مدينة مافكنج شمال جنوب افريقيا من قبل عصابات البوير والتي استمرت في حصارها مدة زادت على مئتي يوم، استطاع فيها اللورد أن يثبت صموده وجيشه اعتمادا على مجموعة من الفتيان دربهم تدريبا بسيطا لادخال المعونات والطعام والشراب واستكشاف خطوط العدو.

لاحقا حين عاد إلى إنجلترا بدأ بتدريب الفتيان على مجموعة مهارات ومبادئ ليعلن تأسيس الحركة الكشفية عام 1907.

أحداث كثيرة تلت ذلك، لكن ما يعنيني أنه وبعد أكثر من واحد وتسعين عاما على انطلاقتها، انضممت إلى تلك الحركة العابرة للقارات. كنت صبيا في السابعة حين بدأت مغامرتي مع مجموعتي الكشفية، وتدرجت فيها بكل مراحلها، شبلا، كشافا، متقدما، جوالا و قائدا.

أتذكر الأوقات كلها التي عشتها، بكائي في يومي الأول لعدم رغبتي في إضاعة اللعب مع أصدقائي كل يوم خميس للالتحاق بالكشافة. وبكائي في آخر مخيم حزنا على فراق لحظاته الرائعة التي قضيتها بصحبة الكشافين.

كنا نردد دائما (من رام عزا في الحياة ورفعة وهناء عيش فليكن كشافا)، ومن جرب الحياة الكشفية مرة سيعرف معنى هذا القول. يكفي أن تخرج في رحلة خلوية أو مخيم مع الكشافين في ربوع غابة بلا أدوات كثيرة أو أطعمة وفيرة أو أوسدة وثيرة، وتقضي الوقت تطبق ما تعلمته في لقاءاتك الأسبوعية من مهارات الحبال اليدوية و الأعمال الريادية الخشبية و تتبع الأثر و الاستدلال بالنجوم و حل شيفرات موريس وغيرها.

تسابق وتنافس بروح الفريق مع طليعتك وتجمع ما تجمع من الحوافز والجوائز. تطهو طعامك بنفسك مندمجا مع الطبيعة المحيطة باستخدام أدواتها، تأكل غير آبه بمذاق ما طهوته؛ كل ما يكون بعد عناء لذيذ. تملأ كل أوقاتك بأهازيج الكشافة، يخرج لحن ذو شجون كأنه خرج من كورال غنائي مدرب، إلا أن المعظم لا يملك حنجرة ذهبية ولا نحاسية حتى، لكنه يملك روح الكشافة.

تختم يومك بنار السمر تلتفون حولها متاشبكي الأيادي ويعلو الضحك والمزاح على مسرحيات الكشافين حول النار وبعض مواهبهم، ويزين سمركم السماء الصافية ويكسر هدوء ليله بالمرح، تنام مفترشا الأرض ومتلحفا بالسماء. ينتهي نشاطك كما بدأ حول سارية العلم، تحييه وتعد أمامه وعد الكشاف أن تقوم بواجبك نحو الله والوطن والناس، فهذه غاية الكشاف.

حياة كهذه لا تملك إلا أن تحبها حتى تصبح حياتك، تعيش من أجلها وفي سبيل تحقيق أهدافها السامية. حياة تعطيك أفضل الصداقات و أمتنها وأدومها لأنه ما جمعكم إلا حب الخير والتطوع والعمل. تبدأها كل يوم بالوعد الكشفي مذكرا نفسك ورفاقك، ولها صفات عشرة هي قانون الكشاف على كل من انتسب لها أن يتحلى بها، هي أن تكون صادق نافعا مخلصا ودودا مؤبا مطيعا رفيقا باشا مقتصدا نظيفا، أينما حللت أو ارتحلت.

الحركة الكشفية – والتي أفخر بها أنني جزء منها – عالمية بامتياز، تجاوز منتسبوها أربعين مليونا في مختلف أنحاء المعمورة، شبابية تربوية، تهدف إلى تنمية قدرات الشباب واستثمار طاقاتهم وتوجيهها لخدمة مجتمعاتهم. تطوعية، لا أجر لمن يعمل فيها ويدرب الفتية، إنما أجره نجاح فتيته وثمرته استمرارهم في خدمة مجتمعهم كل حسب موقعه.

لا تنطوي تحت غطاءات السياسة – وهذا في تعريفها العالمي وشرط لها – مع ذلك تعتبر خط الدفاع الثالث في الدول بعد الجيش العسكري والقوات الأمنية المدنية، إذ تساهم في الكوارث والحوادث والحروب لمساعدة الناس وتلبية احتياجاتهم.

جدير بالذكر أن الكشافين من حول العالم يجتمعون في لقاء كل أربع سنوات يتبادلون خبراتهم وثقافاتهم فيما يسمى بالجامبوري العالمي والذي كان آخر انعقاد له في اليابان، آملين أن يسود العالم سلام غطته حروب دموية تقضي كل يوم على الإنسان.

مضت أكثر من سنة على آخر لقاء كشفي لي، إلا أن الذكريات لا تنقضي من أذهاننا والحب متصل لمن عرفناهم من خلالها والشكر موصول لمن علمنا فيها وبذل وقته وجهده لنكون كشافين روادا للمجتمع.
لهذه الحركة ولمجموعتي الحبيبة فضل علي كما على الملايين من الشباب تطويرا وصقلا، أتمنى أن يكون بعض التعريف بها جزء من رد الجميل الكبير لها.

أظن أنني أجد بعد هذه السنوات تعريفا مناسبا لها، فهي كما كنا نغني دائما.. كشافة يا حياتي.