شعار قسم مدونات

لسنا طوائف

blogs - Egypt
تعني الديمقراطية في أحد وجوهها توسيع حق المشاركة في القرار السياسي وتساوي الأفراد في ملكيته بغض النظر عن أية عوامل أخرى سوى كونهم مواطنين في الدولة. ويمكن تأريخ الحداثة السياسية عبر هذا المنظور باعتبارها تاريخا من الفرز يجري خلاله فصل الحق في المشاركة السياسية عن شروط أخرى سوى المواطنة.
 
الطائفية هي نقيض الديمقراطية، وهي رديف الطبقية الرأسمالية من جهة، والتطرف الديني من جهة أخرى

ارتبط حق المشاركة في القرار السياسي بادئ ذي بدء بالنبالة، وهي صفة غير مكتسبة تحوزها نسبة محدودة من المجتمع هم النبلاء أو الأرستقراطيين، وقد ارتبطت نشأة الديمقراطية في الغرب، كما ينظر لها اليوم العديد من المفكرين (كتشارلز تايلور) بأثر رجعي، بكفاح النبلاء ضد الملك لضمان الحد من سلطاته الاستبدادية المطلقة.
 

وهو الكفاح الذي يرمز إليه غالبا بـ "الماجنا كارتا" (الميثاق الأعظم)، وهي وثيقة فرض فيها البارونات على الملك جون في إنجلترا عام 1215، شروطا تحد من صلاحياته (ثمة تفاصيل تاريخية هامة يجب أخذها في الاعتبار عند الحديث عن الماجنا كارتا، لكن لا مجال هنا لها).
 

أدت الثورة الاقتصادية لاحقا إلى صعود أرباب الأعمال من خارج الطبقة الأرستقراطية مطالبين بحقهم في المشاركة السياسية بناء على مكانتهم الاقتصادية، وهو ما رمزت إليه الثورة الفرنسية عام 1789، التي خاضها البرجوازيون (كلمة فرنسية تعني أصحاب الحقوق المدنية من سكان المدن) بالتعاون مع الطبقة الكادحة ضد سلطة النبلاء وداعميهم من رجال الدين (ينبغي الالتفات إلى أن موقف الثوار تجاه الدين ورجاله كان أكثر تركيبا مما يقال عنه عادة).
 

فصلت البرجوازية إذا بين المكانة الاجتماعية status وبين الحقوق السياسية، لكنها أبقت على ربطها بالمِلكية، أو المكانة الاقتصادية/الطبقية، أي حدث انتقال، كما يلاحظ عزمي بشارة في المجتمع المدني، من مفهوم الطبقة السياسية estate، التي مثلها النبلاء، إلى مفهوم الطبقة الاقتصادية class، التي مثلها أرباب الأعمال البرجوازيون، ما مثل خيانة برجوازية للطبقة الكادحة، مما أدى إلى ثورات العام 1848 التي تزعمتها الطبقة الوسطى ومثل العمال قوتها الضاربة.
 

أخذ الحق في المشاركة السياسية يتوسع لاحقا رويدا رويدا ليشمل الفئات المهمشة كالمرأة والسود؛ أي أن الديمقراطية كانت تتوج في ذروتها بليبرالية سياسية، يكون فيها الفرد بما هو فرد، لا العائلة ممثلة برب العائلة، ولا الجماعة أو الطبقة، هو الوحدة الأساسية للنظام السياسي.
 

يفيدنا هذا التاريخ الطويل في إعادة تعريف الطائفية كظاهرة سياسية؛ حيث يمكننا الآن تعريفها باعتبارها حصر الحق في المشاركة السياسية بطائفة محددة وفقا للدين أو العرق أو غيرهما من الخصائص الاجتماعية. ويسمح لنا هذا التعريف بتحويل الطائفية إلى نموذج شارح لحالات أكثر من حالات الطائفية الدينية أو العرقية المباشرة، كحالات الطائفية الطبقية التي تحتكر فيها إحدى الطبقات الثروة والسلطة.
 

فالطائفية بحسب ذلك التعريف هي نقيض الديمقراطية، وهي رديف الطبقية الرأسمالية من جهة، والتطرف الديني من جهة أخرى، والرجعية الاجتماعية التي تهمش المرأة أو سكان الأقاليم أو غيرهما من المواطنين من جهة ثالثة. أي أن الكفاح في سبيل الديمقراطية يمكن إدراكه في تلك الحالة باعتباره جوهر الكفاح في سبيل العدالة الاجتماعية أو المواطنة أو حقوق المهمشين، في الوقت نفسه.
 

ويمكننا ذلك من تناول العديد من الظواهر العربية نقديا في آن واحد:
– يمكننا ذلك من إدراك التناقض في سلوك الأقليات العربية المتحالفة مع أنظمة استبدادية في سبيل حمايتها من الجمهور الفاشي. فسلوك تلك الطبقات لا يساعدها في الحقيقة على إدراك حقوقها السياسية، أو تحقيق حلم المواطنة، وإنما يحولها إلى رهينة في صراع لا يعبر عن همومها الحقيقية.
 

رفض بعض المثقفين الوطنيين أو القوميين إعطاء اللاجئين من مختلف البلدان حقوق المواطنة في بلدان هؤلاء المثففين بدعوى عدم السماح بتفريغ وطنهم الأم

– كما يمكننا ذلك أيضا من إدراك التناقض في النقد الذي توجهه شرائح من المثقفين إلى الدولة القومية أو الدولة-الأمة باعتبارها كيانا فاشيا يقصي من لا ينتمي إليه. فهذا النقد، وعلى الرغم مما يبدو عليه من رغبة في توسيع مكونات الأمة السياسية، إلا أنه يعيد تأسيس المواطنة على أسس ثقافية بحسب الانتماء إلى قومية أو دين ما، ونزع الأسس الحقوقية للمواطنة التي أعطتها الدولة-الأمة في تطورها الحديث لكل من يقيم فيها من البشر ويلتزم التزامات قانونية محددة تجاهها.
 

– يسمح لنا ذلك أيضا باكتشاف المخاتلة في رفض بعض المثقفين الوطنيين أو القوميين إعطاء اللاجئين من مختلف البلدان حقوق المواطنة في بلدان هؤلاء المثففين بدعوى عدم السماح بتفريغ وطنهم الأم. وهي مخاتلة فاشية الجوهر لأنها تغفل حقيقة كون المواطنة مسألة حقوقية يستحقها المقيم بحكم الإقامة والالتزام القانوني تجاه الدولة التي يقوم فيها، لا بتخليه عن حقه في بلده الأصلي وانتمائه إليه.
 

– يمكن في ضوء هذا الفهم لظاهرة الطائفية إعادة اكتشاف الإسلام السياسي باعتباره حركة طبقة وسطى مناهضة لطائفية وهيمنة طبقات علمانية تهمش عن عمد ووعي شرائح واسعة من الطبقة الوسطى بحكم تدينها ومحافظتها اجتماعيا. وتحاول تلك الشرائح الوصول إلى السلطة وتحقيق تنمية اقتصادية واسعة النطاق كردة فعل على هذه الحالة من التهميش، لكنها على كل حال تصب في صالح عدالة اجتماعية أكثر واقعية وليبرالية سياسيا من نظيرتها اليسارية.
 

إننا لسنا طوائف؛ هذا هو جوهر الصراع السياسي العربي، ليس فحسب في سوريا والعراق ولبنان، ولكن أيضا في مصر وتونس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.