شعار قسم مدونات

الموت المتربص بين القارب الخشبي وأبواب سفارات أوروبا

blogs - re
"الضغط يولّدُّ الانفجار، حكمة مبتذلة ولكن حقيقية، والانفجار غالبًا ما لا يكون جميلًا، وإنما تخرج معه ديدان وصراصير مكبوتة"، جاءت هذه المقولة في "قواعد العشق الأربعون" للكاتبة التركية "إليف شافاق"، في معرض رواية مكونات الحب التي جمعت "جلال الدين الرومي" و"شمس التبريزي"، أما في رواية أخرى، لم يستطع فيها كلٌّ من "الحب والإنسانية" جمع شعوب الأرض بعضها البعض، فتُرك أحدها أو أكثر بمواجهة مع الموت، ثم كان الانفجار.

أربكتني موظفة السفارة البلجيكية في العاصمة التركية "أنقرة" بأسئلة كثيرة كبّتها عليّٓ مستغربةً من حقيقة حصولي على منحة دراسية تخولني السفر إلى بلجيكا، وأكاد أكون غير قادرٍ على تحديدِ سبب استغرابها حقاً ما إذا كانت المنحة الدراسية، أم سفري، أم أوراقي الثبوتية السورية التي أحمل. أظهرت لها، تلك الشاشة أمامها معلوماتٍ عني، قد نسيتُ معظمها، وفي معرض مراجعتها لهذه المعلومات على مسمعي، جعلتني أتأكد مني مرتين، أهذا أنا، أهذه العوائق القانونية والمعيشية والشخصية التي أعانيها حقاً؟ كلها؟

كان الحزنُ يعتريني سريعاً، عندما أرى صورةً لسوريٍّ، أياً كان عمره، وهو يستقل قوارب الموت المتجهة عبر بحر "إيجة" من الشواطئ التركية إلى اليونانية، لا لرؤية المهاجرين بحد ذاتهم فقد كان من المحتمل أن أكون في مكانه يوماً، وإنما تعرضهم لظلميَن متتاليين، جهلُ حقيقة ما دفعهم للهجرة، والنظر بعيون الشفقة عليهم.

عدتُّ من غيبوبتي القصيرة، حالٓ سؤال الموظفة عن ورقةٍ ناقصة في الملف، طلبتُ منها أن تعيد فقالت، "ورقة تثبت خلو سجلك من أية أعمال جنائية أو إجرامية"، (لا حكم عليه). لم أستوعب تماماً ما قالته، حتى ضربت فأسها برأسي متابعةً "وهل قمت بتصديقها من الخارجية السورية التابعة للنظام السوري"؟ لم أجب.

لم ير السوريون ممارسةً حقيقةً لأي نوعٍ من الضغطِ على البلدان المجاورة، التي باتت تستضيف جزءاً كبيراً منا، بهدف حماية اللاجئين، ولكن غالباً ما واجهوا معاملة سيئة.
هي تعرف حق المعرفة أني في سنٍّ يجعل مني واحداً من اثنين، عسكري في الجيش، أو طالب في الجامعة. طال شرحي لها بأن هذه الورقة مستحيل إخراجها وانا لاجئ في تركيا مبعدٌ بسبب الملاحقة وظروف الحرب، ثم أن المنحة الدراسية التي حصلت عليها، صُممت لأبناء "مناطق الصراع"، ما يتيح الإمكانية للتجاوز عن بعض الأمور، أليس كذلك؟ لم تقتنع.

سمعنا قبل أربع سنوات ونصف، أنه من غير الممكن إنشاءُ حظر جويٍّ في سوريا بقيادة المجتمع الدولي، بعضهم ذهب ليعلل بأنه مكلف وآخرون لم يجدوا "الحاجة لذلك". أُنقصُ الأربع سنوات إلى اثنتين، فمن ذلك الوقت وحتى الآن، لم ير السوريون، ممارسةً حقيقةً لأي نوعٍ من الضغطِ على البلدان المجاورة لسوريا، والذين باتوا يستضيفون جزءاً كبيراً منا، بهدف حماية اللاجئين على أراضيهم من الاستغلال، فغالباً ما واجهوا معاملة سيئة، – ولو بنسبٍ متفاوتة – وصلت في بعض الأحيان حدَّ الطرد.

عاد صوت الموظفة ليقتحم أذني عبر دائرة سوداء فيها مكبر للصوت يتموضع في وسط الزجاج العازل بيني وبينها، ليحمل مزيداً من الأسئلة حول مصير أختي الصغيرة التي تقيم معي؟ عن عملي ؟؟ أين والدي وأمي؟ رأيتني أسألُ في باطني مكرراً، أين والدي وأمي؟ ثم تابعتْ، "كيف حصلتَ على المنحة؟ هل أنت "عالمٌ"؟، سألتني دون ابتسامةٍ أو أي شيء يبعث على الطمأنينة. ساد المقابلة جوٌ من الصدمة، أجوبتي حقيقية لكن لم تناسبها، فأضافت، أنه عليّٓ أن أكون طالباً في تركيا وليس موظفاً، عليّٓ أن أتبرئ من مسؤولية أختي، ثم عليّٓ أخيراً ألا آملَ كثيراً.

انعدامُ الأفق وازديادُ الوضع في سوريا سوءاً على مختلف الأصعدة، دفع بقلة قليلةٍ من السوريين، للجوء إلى طرق التهريب، والتي لم يكن "بحر إيجة" سوى أشهرها، فكان هناك السفر عن طريق الجوازات الأوروبية المزورة والبواخر التجارية، وسط حالة ذهول تعتري من يسمع الأرقام والمبالغ التي تُدفعُ في سبيل ذلك، ثم سرعان ما تحولت هذه القلة إلى أعداد غفيرة غير مسبوقة لتشكل ما عُرٍفَ بـ "أزمة المهاجرين الأضخم بعد الحرب العالمية الأولى".

تحولت النافذة الزجاجية النظيفة الفاصلة بيني وبين الموظفة، إلى بقعة سوداء ابتلعت العالم !!
صمتت لوقتٍ شعرت أنه طويل جداً، ثم ودعتني قائلةً: "بحسب ما لدينا فإن نسبة حصولك على هذه التأشيرة ضعيفةٌ جداً، لا شيء في سيرتك يشبه الآخرين !! ولكن دع الملف أن يأخذ مجراه، أو "leave it be".

بدون تفكير، وبردةِ فعل وقودها الغضب، طلبت منها إلغاء طلب التأشيرة فوراً وإعادة "جواز السفر" خاصتي إلى عنواني في المدينة التي أعيش فيها، فأنا جئت إلى هنا لأن السفارةَ ترفضُ إجراء مقابلاتٍ لمن يحملون وثائق سورية في قنصلياتها بباقي المدن، إلا أن الموظفة سارعت للإجابة: "أخشى أن هذا الأمر غير متاح حالياً، فقد دخل تطبيقُ تأشيرتك في النظام مسبقاً".

من لم يتح للاجئين طرقاً أقل خطورة، وتٓرٓكٓهم في عرض البحر، لن يرشنا برذاذ رحمةٍ للحصول على التأشيرة.

تتكشفُ بعض المفاجآت عن سفارات دولِ العالم، بعد وصول السوريين إلى وجهتهم الأوروبية المرجوة، ملؤها السخط والغضب والألم، حيثُ يحكي معظمهم عن تجارب كانت معظمها فاشلة للحصول على التأشيرات، خصوصاً بعد دفعهم الكثير من الأموال لأجل إجراء المقابلة والسفر إلى المكان المطلوب إجرائها به، مُبرزين السؤال الذي لم يكن له نصيب في وسائل الإعلام العالمية إبان موجة اللجوء الضخمة العام الماضي، "ماذا كانت سفارات الدول الأوروبية تفعل في كلٍّ من تركيا ولبنان والأردن وهي التي صدعت رؤوس العالم بحقوق الإنسان"؟

ربما أرادوا أن أقول ما أقوله الآن، ربما أرادونا ألا نحاول مرة أخرى، أو ربما هم يحاولون نقلَ شعور "الراضي والمقتنع" عما يجري في بلدنا، فمن لم يقف في وجه المجرم، ومن لم يقف حقاً مع حقوق الإنسان، ومن لم يتح للاجئين طرقاً أقل خطورة، وتٓرٓكٓهم في عرض البحر، لن يرشنا برذاذ رحمةٍ للحصول على التأشيرة، فكان الانفجار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.