شعار قسم مدونات

سفراء الجمال.. زهير بن أبي سلمى

blogs - zuhair
جاء في القاموس، جمُل إذا حَسُن، والجمال عكس القبح، أما القرآن فقد فرّق في استعمال اللفظين، فجاء الحسن وما اشتق منه في مواضع مثل قوله تعالى:

(للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) فاشتق للجنة اسمها (الحسنى) من الحسن.
(ولله الأسماء الحسنى) وصف بها أسماءه سبحانه.
(من جاء بالحسنة فله خير منها) وسمى بها العمل الصالح.
(لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن) ووصف بها جمال النساء.
 

أما الجمال فقد ورد في مواضع أخري منها قوله تعالى:

(فصبر جميل)
(فاصفح الصفح الجميل)
(فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا)
وقال أيضا (واهجرهم هجرا جميلا)
 

وعليه فقد فرّق بينمها بعض المفسرين بأن الحُسن لفظ يعكس الأصل المليح الموجود حقيقة في الأشياء فهو لازمتها لا يحيد عنها ولو غاب إدراكنا له. أما الجمال فلفظ يصف أثر الشيء في النفس. أي أن الجمال هو إدراكنا للحُسن، أو ربما لغير الحسن في ذاته كما جاء في الطلاق مثلا وعند هجر المشركين إن كذبوا الدعوة (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا)، فهو هجرٌ جميل في أثره، غير موغر للصدر، وتسريح جميل، يرجى منه أثر طيب.
 

ما سبق، مختصر تدوينة قديمة كتبتها قبل سبعة أعوام، أقتبس عنوانها اليوم، ليكون شعار سلسلة ضمن "شرقيات"، أخصها لشعراء العربية، "سفراء الجمال" الذين سبكوا الحروف، وتعاهدوا اللغة حتى نضجت، وازدانت في الآذان، وحَلَت في الأفئدة، وصاغت عقولا ورسمت سلوكا، وفاضت حكمة وبهاءً.

عاش زهير حياة رغدة موسرة، في كنف أخواله بعد وفاة والده، تزوج أم أوفى التي يذكرها في شعره، ولم تنجب له، ثم تزوج بعدها أخرى اسمها "كبشة" أنجبت له بجيرا وكعبا

وأول السفراء زهير أبي سلمى بن ربيعة بن رياح، من مزينة مضر عند أغلب النسّابة، وقال ابن قتيبة هو من غطفان، إلا بيتا قاله نسب فيه نفسه لمزينة:
 

أعيرتني عزا عزيزا ومعشرا … كراما بنوا لي المجد في باذخ أشم
هم الأصل مني حيث كنت وإنني … من المزنيين المصفين بالكرم
 

وكانت منازل قومه في بلاد غطفان، فظن الناس أنه منها، وقيل هم أخواله.
 

ولم يتصل الشعر في نسل شاعر من شعراء الجاهلية الكبار مثلما اتصل في نسل زهير، فولداه كعب وبجير شاعران أدركا الإسلام ولم يدركه أبوهما، وأسلم بجير أولا فكتب له كعب أخوه يقول:
 

ألا أبلغا عني بجيرا رسالة … فهل لك فيما قلت بالخيف هل لكا
شربت مع المأمون كأسا روية … فأنهلك المأمون منها وعلكا
وخالفتَ أسباب الهدى وتبعتَه … على أي شيء ويب غيرك دلكا
على خلق لم تلف أما ولا أبا … عليه ولم تدرك عليه أخا لكا
 

وهي الأبيات التي يقال إنها حين بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم توعده وأهدر دمه، ولا أرى فيها سببا في الحقيقة لإهدار دمه، إلا أن تكون هناك أبياتا أخرى لم ترو، وليس من عادة الرواة حجب شيء من شعر العرب لأي سبب، أو أن الأمر كما افترض طه حسين: إن كعبا وبجيرا كانا قد اتفقا على قتل الرسول، وذهب بجير فأسلم وبقي كعب وقد عرف رسول الله ما كانا قد نوياه، ولم أتتبع الأمر بالبحث خلال كتابتي لهذه التدوينة لأن موضوعها هو أبوهما زهيرا، ولأني أؤخر الكتابة دوما للساعة الأخيرة، وإنما ذكرتهما، لأدلل على اتصال الشعر في نسله ولعلي أعرض لما قيل في الأمر إن تحدثت عن كعب، ولكعب ولد هو عقبة، وهو شاعر أيضا ولقبه المضرّب؛ ذلك أنه شبب بامرأة من بني أسد، تقول الرواية فضربه أخوها مائة ضربة بالسيف فلم يمت، وولد لعقبة العوام، وهو شاعر أيضا. وأبوه وزوج أمه وأختاه وخاله الذي تربى في كنفه، كل هؤلاء شعراء.
 

عاش زهير حياة رغدة موسرة، في كنف أخواله بعد وفاة والده، تزوج أم أوفى التي يذكرها في شعره، ولم تنجب له، ثم تزوج بعدها أخرى اسمها "كبشة" أنجبت له بجيرا وكعبا، وقد ارتبط اسمه في المدح، بهرم ابن سنان، صاحب الفداء الشهير في حرب داحس والغبراء مع الحارث ابن عوف، دفعا ديات القتلى من الطرفين والتي بلغت ثلاثة آلاف بعير، واستمر أداؤهما لها ثلاث سنوات، وفي ذلك قال زهير:
 

تداركتما عبسا وذبيان بعدما … تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
وقد قلتما إن ندرك السلم واسعا … بمال ومعروف من القول نسلم
فأصبحتما منها على خير موطن … بعيدين فيها من عقوق ومأثم
عظيمين في عليا معد هديتما … ومن يستبح كنزا من المجد يعظم
 

وكان هرم قد حلف ألا يمدحه زهيرٌ إلا أعطاه، وكان زهير يستحي من كثرة عطائه، فإذا نزل بقوم فيهم هرم قال "عموا صباحا غير هرم، وخيركم استثنيت"، لئلا يلزم هرم العطاء.
 

وكان عمر ابن الخطاب دائم التذكر لزهير، قال مرة لابن عباس، أنشدني لشاعر الشعراء الذي لم يعاظل بين القوافي، ولم يتبع وحشي الكلام، قال: من يا أمير المؤمنين؟ قال زهير، فلم يزل ينشده حتى أبرق الصبح.
 

ومعنى يعاظل بين القوافي، أي يجعل بعض أبياته غير مفهوم إلا ببعض، أي ركبه، وجعله معقدا.
 

وكان عمر رضي الله عنه يقول في بيت زهير:
 

فإن الحق مقطعه ثلاث … يمين أو نفار أو جلاء
 

"لو أدركت زهيرا لوليته القضاء"، ذلك أن زهيرا جمع في هذا البيت طرق إظهار الحق الممكنة للقاضي، فهي إما اليمين "يعني القسم" أو النفار وهو الاحتكام أو الجلاء بالحجة والبينة.
 

ومن جميل قوله في جمالٍ، وصفه:

تنازعها المها شبها، ودر البحور، وشاكهت فيها الظباء
 

ومعنى شاكهت أي شابهت، فشبهها بثلاث المها، والدُّر والظباء وهي أبقار الوحش، ثم فصل ذلك:

فأما ما فويق العقد منها … فمن أدماء مرتعها الخلاء
وأما المقلتان فمن مهاة … وللدر الملاحة والصفاء
 

والأدماء هي الظباء البيضاء، أي أبقار الوحش البيضاء، وهذا التفصيل في التصوير مما تميز به زهيرٌ عمن سواه.
 

قال عمر بن الخطاب يوما لبعض ولد هرم: أنشدني بعض ما كان يقول فيكم زهير، فأنشده، فقال عمر رضي الله عنه: إنه كان إذا قال فيكم أحسن، فقال يا أمير المؤمنين: إنا كنا نعطيه فنجزل، فقال: ذهب الذي أعطيتموه وبقي ما أعطاكم."
 

ومما قاله زهير في هرم:

هْوَ الْجَوَادُ الَّذِي يُعْطِيْكَ نَائِلَهُ … عَفْواً وَيُظْلَمُ أَحْيَانَاً فَيَظْطَلِمُ

أي أنه لكرمه يسأل ما لا يقدر عليه فيتحمله.
 

ولا يضيع في الحقيقة عطاء على بيان، سواء كان البيان شعرا كما كان في عصر زهير، أو شعرا ونثرا كما في عصور عربية تلته، أو حتى فنّا من حديث ما عرف الناس من الفنون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.