شعار قسم مدونات

الثائرون نياما

blogs - masri
لا أتذكر كيف بدأت علاقتي بهذه الأحرف الثلاث، الثاء والراء وحرف الواو أو الألف بينهما لينين كما اتفقا فى استعمال الكلام، ثم تائهما المربوطة بقلبي ساعة سمعت كلمة (ثورة)، ربما كانت أقرب واحدة منهن إلى الذهن تلك التى حدثت فى بلاد فارس، وهؤلاء الذين يظهرون إلى جوارها معممين بالسواد، ذلك لأنني عرفت مبكرا أن الثورة الأخرى الأقرب مكانا والأبعد زمنا – بقليل – والتى يقف جوارها ضباطٌ بقبعات كاكية لم تكن سوى انقلاب.

لكني أتذكر أن أول ثائر دخل إلى معجمي لم يكن بهذا القرب لا زمانا ولا مكانا، لقد كان فى الصدر الأول من عمري الذي بدأ قبل 14 قرنا، لقد كان دمه الذى نزف فى كربلاء هو الدم الأول الذى أضرم تلك النار المتقدة فى صدري، كان الحسين أول ثائر يأخذ في وجداني هذا اللقب، ومن وقتها وأنا مدرك كل الإدراك أن لا مناص من مصيره أو مآل حِراكه، دم مسفوح ومُلك مشيد.

ثائرون رغما عنا وعن من استيئسوا منا، ورغما عن كل من أراد للحوادث أن تكون سكونا مرة أخرى كي تستطيل به السلطة والثروة والشهوة.

ربما كان الحسين ثائرا بلا ثورة، صرخة بواد، قولة حق ليس من وراءها خُطة أو تدبير، لكن الثائر الذى كان معه ثورة لم تكن نهايته بأسعد حالا، مصلوبٌ على أبواب مكة النازفة من حجارة كعبتها، المقصوفة بالنار والمنجنيق، كان عبد الله بن الزبير ثائرا ومعه ثورة، لكن أمام دولة وطأته بكلكلها ومضت بلا التفات.

لم يزدنى هذا الوِرد الدامي إلا عطشا، عطشٌ فى أرضٍ جَدْب لا يتحدث فيهم أحد عن ثورة ولا ثائرين، أناسٌ ظانون أن الدنيا ستمر هكذا كما مرت على من قبلهم، تسير بتؤدة إلى منحدرها السحيق، ولا نعترض عربتها إلا بالأمانى ليس إلا، مَهْ .. ما هكذا يسير الدهر يا قوم، لا والذى خلق أمما أثاروا الأرض وعمروها آبادا بعد آباد، فإن الجبال التى ظن الناس من حولنا أنها جامدة كانت تمر مر السحاب.

كانت الأرض هامدة فنزل عليها ماء الهَيْج فاهتزت وربت على حين غفلة من الناس وعلى غير انتظار منهم، كما لو كانوا نائمين فانتبهوا، ماجت الأوطان ومادت بالثورات، فصارت خيالاتي وتخرصاتي مشِيداتٍ تملأ السمع والبصر، وجابت كلمة (ثورة) الفجاج والسبل، هذه التى آمنت بها قبل عقد من الزمان، الآن يدخل الناس في دينها أفواجا، وأنا كسابق أولٍ أقف فى شعاب مكة يوم الفتح أنظر الوفود وأتمم بالحمد.

كانت الأرض مخضرة فهاجت فأصبح زرعها مصفرا فهشيما زرته الرياح، وانقلب الناس قبل الحُراس على الثورة، التى لم تطعمهم من جوع ولا آمنتهم من خوف بعد، صاحوا فى وجه الثائريم أن قد أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جائتنا، فتحوا السياج للريح العاتية، فأزالت ما أحدثه المطر فى الأرض، نفس الأرض التى جف عليها دم الحسين ورنت إلى جسد الزبير المصلوب فوقها تكظم على أجساد الشهداء وأحلام الثائرين وتتظاهر بأنها لا تبالي.

تحت الثرى لم تتبلد الحمم بعد، كنت أظن أن دورة من دورات الثورة قد انتهت، عدنا لبيوتنا من الساحات، عدنا لأعمالنا التى نترزق بها من الأنشطة والفعاليات، لكن الأعوام التى تلت كتم أنفاس الثائرين تكشفت لى فيها مفاتن أخرى فى حبيبتى كانت غائبة عنى، فالثورة البرانية الظاهرية التى حدثت فى عامي ما بعد 2011 ربما حدث أضعاف أضعافها من ثورات جوانية داخلية فينا فى أعوام ما بعد 2013.

كل شيء أنظر له اليوم أجده بعين غير العين التى كنت أنظر بها له قبل عامين أو ثلاث أو خمس، وأتساءل متى بدلت وجهة نظري في هذا الأمر، صغيرا كان أو كبيرا، كل شخص أقابله فى مكان ما، وكل رأى أصافحه على شاشة ما أجده مختلفا ولا يشبه ذلك الذى كنت أعرفه قبل تلك السنوات المائرة، ويكأن هذه الثورة الفائرة الحالية تسير بليل ونحن نائمين.

كلٌ يحتاج إلى شجاعة ثورية حتى تخرج منه الكلمة خروجا كالخروج الذى عرّف به العرب والمسلمون فى قديم الثورة بأنّها :"الخروج"، هو ذاك .. خروج من عالم مظلم، إلى عالم رحب.

ثائرون رغما عنا وعن من استيئسوا منا، ورغما عن كل من أراد للحوادث أن تكون سكونا مرة أخرى كي تستطيل به السلطة والثروة والشهوة، ورغما عن المستبدلين الذى أدنى بالذي هو خير، الراضين بالزرع المتبعين اذناب الوظائف فى دواوين الحكومات، ثائرون وكل شيء في هذه الحياة يظل ثائرا حتى يكون، وإن كنا عن كل هذا غافلون.

البذرة تحتاج لثورة حتى تشق الأرض ويخرج فرعها للسماء، الفراشة تحتاج لثورة حتى تتخلص من شرنقتها وتفتح جناحيها للفضاء، الجنين يحتاج إلى ثورة حتى يشق بطن أمه ويرى نور الدنيا، والطفل منا يحتاج إلى ثورة المراهقة بكل اضطراباتها وهياج موجها حتى يشب عن الطوق ويصبح رجلا، والرجل منا يحتاج إلى ثورة حتى يعترف لفتاته بأن عينيها جميلتان فينسال شعوره المكنون فى صدره فائرا نحوها، الكاتب والشاعر والرسام والمغنى..

كلٌ يحتاج إلى شجاعة ثورية حتى تخرج منه الكلمة والصورة واللحن خروجا كالخروج الذى عرّف به العرب والمسلمون فى قديم الثورة بأنّها :"الخروج"، هو ذاك .. خروج من عالم مظلم، تربة شرنقة رحم فكّين إلى عالم رحب .. وكل ذلك يحدث درينا أو لم ندر، فننظر إليه ونتعجب متى سار ذلك وثار، أونحن نائمون!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.